المستقل – د . عبدالله سرور الزعبي
تابعت خلال الأسبوع الماضي ما يكتب عن قرار دولة الكويت الشقيقة -التي نعتز بشعبها وبقيادتها- بوقف ابتعاث طلابها إلى الكليات الطبية في الجامعات الأردنية، وأستغرب مثل هذه الضجة الإعلامية، فلكل دولة الحق في اختيار الجامعات التي ترسل اليها طلابها، وهذا ما نمارسه على مستوى وزارة التعليم العالي والجامعات. كما من حق الجامعات (معمول به في الجامعات العالمية) أن تحدد أعداد الطلبة ونوعية الطلاب التي تستقبلهم للدراسة فيها. نحن في الأردن لدينا لجنة مختصة في وزارة التعليم العالي للاعتراف بالجامعات العالمية المختلفة، واحياناً لا نقبل الاعتراف بالشهادات الصادرة عن بعض الجامعات، على الرغم من سمعتها العالمية وقد يكون السبب في ذلك عدم تحقيق بعض أبسط الشروط المعتمدة من قبل اللجنة.
أرى بأنه لا ضرورة لمناقشة مثل هذا الموضوع بهذا الزخم الإعلامي وإصدار التصريحات والدعوة لعقد الندوات، ما دمنا واثقين بنظامنا التعليمي وجودة مخرجاته، وكان من المفروض ان نعتبر وكأن شيئا لم يكن.
كما أنه من المفروض قبل أن نلوم أي جهة على قراراتها أن نلوم أنفسنا على ما نرتكبه من إساءات مختلفة (في معظم الأحيان غير موجودة على أرض الواقع، فتارة يتم تضخيم العنف الجامعي وأعمال التحرش وتارة باختلاق مخالفات من قبل بعض القائمين على الجامعات غير موجودة أصلاً لبناء أمجاد زائفة)، يقودها أحياناً بعض الأشخاص من أصحاب المصالح لهم أهدافهم، واحياناً أخرى يقودها البعض من المجتمع الاكاديمي (على الرغم من محدودية عددهم إلا أنهم يجيدون استخدام وسائل الإعلام المختلفة للترويج لما يقومون به)، بهدف الانتقام من بعض القيادات الاكاديمية التي لا تسير على هواهم ولتشويه الحقائق بدون وجه حق. إن مثل هؤلاء وفي معظم الأحيان لهم تاريخ حافل بالسرقات العلمية والفشل في إدارة أصغر المشاريع البحثية، ومع ذلك تجدهم الداعين والحريصين لإصلاح التعليم والنهوض بالبحث العلمي، كما لم يسبق لهم أن قدموا أي إنجازات حقيقية، متناسين انهم بمثل هذه الطريقة لا يلحقون الضرر بالأشخاص (لأن الحقيقة جلية) بل بالجامعات الوطنية وبسمعة التعليم العالي.
مع كل ذلك يسجل لجامعاتنا الوطنية تحقيق نجاحات، من الممكن اعتبار بعضها بالمستوى المتميز، إلا أن الأمر لا يخلو أحياناً من وجود بعض الخلل هنا أو هناك، ويتحمل ذلك في الدرجة الأولى وزير ومجلس التعليم العالي وهيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان جودتها وعدد قليل من رؤساء الجامعات (الذين ينظرون الى موقع رئيس الجامعة كوسيلة لبناء شبكة من العلاقات وتحقيق الشعبويات، التي لا تبني مستقبل المؤسسات ولا الأوطان).
وهنا لا بد من التحدث بصراحة وذكر بعض الأمثلة (التي عايشتها شخصياً) على مواقع الخلل في إجراءات القبول في الكليات الطبية. أذكر أنه في عام 2017 كان معالي الدكتور عادل الطويسي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي قد دعا رؤساء الجامعات الى اجتماع لمناقشة البدء بتنفيذ السنة التحضيرية، لتحقيق اهداف الاستراتيجية الوطنية، ولتكن البداية في تخصص الطب، وطب الاسنان، نقاش كان بمنتهى المسؤولية الأكاديمية، وكنت قد تحدثت وقتها بان جامعة البلقاء غير جاهزة لمثل هذه الخطوة، بسبب عدم وجود كليات طبية أخرى فيها، كما تحدث زملاء آخرون، وفي النهاية تم الاتفاق على أن تبدأ الخطوة في الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا.
إلا أنه وبعد سنة من ذلك كان معالي الدكتور الطويسي قد خرج من الحكومة، كما وخرج رئيسا جامعتي الأردنية والتكنولوجيا من موقعيهما، وبدأت المطالبات (من المجتمع وبعض النواب) بقبول كافة الطلبة المقبولين في السنة التحضيرية بدون استثناء، وانضم إلى ذلك رؤساء الجامعات الجدد، وألغيت الفكرة وكانت القفزة الأولى في ارتفاع أعداد الطلبة في تخصصي الطب وطب الأسنان.
في أيلول من عام 2019، دعاء وزير التعليم العالي، معالي الدكتور وليد المعاني رؤساء الجامعات لمناقشة إمكانية زيادة اعداد الطلبة في الكليات الطبية وبحضور رئيس هيئة الاعتماد، منوهاً بان يتم الاخذ بعين الاعتبار توفر إمكانية التدريب النوعي للطلبة، وأذكر بأنني كنت قد طلبت وقتها عدم زيادة أعداد الطلبة في جامعة البلقاء للمحافظة على تقديم تدريب نوعي لطلابنا، وكذلك طلب الدكتور كمال بني هاني، رئيس الجامعة الهاشمية آنذاك، وعندها طلب معالي الوزير تزويده بكتاب رسمي بذلك، وتم مخاطبته من قبل جامعة البلقاء بكتاب رقم 18/2/2/2/8942 تاريخ 17/9/2019، وتقبل الأمر والتزم بذلك. الا انه وبعد خروجه من الوزارة، تم دعوة رؤساء الجامعات الى اجتماع مع لجنة التربية في مجلس الأعيان وبحضور رئيس هيئة الاعتماد، حيث وجهت انتقادات من قبل رئيس اللجنة لرؤساء الجامعات لسماحهم بقبول أعداد إضافية في تخصص الطب، وبما يخالف اهداف الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، وكانت التساؤلات عن البنية التحتية والأكاديمية الكافية لتدريب تلك الاعداد من الطلبة، ومع كل أسف تم تحميل المسؤولية لمعالي الدكتور المعاني، دون الإشارة الى دور مجلس التعليم العالي وهيئة الاعتماد ورؤساء الجامعات.
بعد عامين تقريباً وفي شهر تشرين الأول 2021 أصبح رئيس لجنة التربية في مجلس الاعيان، وزيراً للتعليم العالي، ولنتفاجأ في جامعة البلقاء بإرسال 393 طالباً من قبل القبول الموحد في تخصص الطب، هذا مع العلم بان الجامعة كانت قد نسبت بقبول 150 طالباً فقط، واستمرت قوائم القبول بالصدور الى ان وصل العدد الى 484 وذلك بتاريخ 23/10/2021، الأمر الذي تطلب أن تتخذ الجامعة موقفاً حازماً بعدم السماح بقبول المزيد من الطلبة (رغم كل الضغوطات)، ومع كل أسف فقد تم تفسير الأمر وكأنه مناكفة لمعالي الوزير. كما أن الجامعة لم تقبل على النظام الموازي في ذلك العام إلا 67 طالباً فقط. وهنا نرى أن الأمر أصبح عكس ما كان يطالب به معالي الوزير، عندما كان رئيساً للجنة التربية في مجلس الأعيان وكما يصرح به للإعلام.
إن مثل تلك القرارات أسفرت عن قبول ما يزيد على 4200 طالب في تخصص الطب للعام الدراسي 2021/2022، رافقه صمت من قبل هيئة الاعتماد. علماً باننا كنا قد تحدثنا بأن المشكلة التي ستواجه طلبة الطب لم تبدأ بعد، وستتفاقم سنوياً مع ازدياد اعداد الخريجين، مع محدودية المقاعد المخصصة للإقامة الطبية والتي لا تتجاوز 1200 مقعد سنوياً.
ومع كل ذلك فإنني أؤكد بأن لدينا نخبة مميزة من الأساتذة في الكليات الطبية وهم الحريصون كل الحرص على المحافظة على مستوى متميز للتعليم الطبي، وإعطاء أقصى ما لديهم من طاقة للمحافظة على نوعية الخريجين لكي يكونوا منافسين على الساحة العالمية، فلهم منا كل الشكر والتقدير على جهودهم الجبارة والتي تفوق الإمكانات المتاحة لهم.
كلنا أمل في ألا يكرر مجلس التعليم العالي ومجلس هيئة الاعتماد القرارات السابقة في زيادة أعداد الطلبة (مع أنني أرى أن يتم ترك أمر القبول للجامعات عن طريق إجراء امتحانات قبول تنافسية فيها) في التخصصات الطبية، للمحافظة على الحد الأدنى من التميز ولنرتقي بكافة التخصصات الأخرى في الجامعات الوطنية، والمحافظة على العمل المؤسسي في الجامعات، لكي يكون التعليم كما أراده جلالة الملك مميزاً ومنافساً على الساحة الدولية.