المستقل – قاد جلالة الملك عبد الله الثاني جولة آسيوية واسعة، شملت 5 دول تُعد من أبرز القوى الصاعدة في آسيا: اليابان، فيتنام، سنغافورة، إندونيسيا، وباكستان. الجولة التي امتدت لعدة أيام، حملت رسائل سياسية واقتصادية واضحة، وعكست توجها أردنيا متدرجا نحو توسيع شبكة الشراكات الدولية خارج أطر العلاقات التقليدية، في مرحلة يتبدل فيها ميزان القوة العالمي، وتتحرك فيها الدول الصغيرة والمتوسطة لبناء مواقع جديدة في خريطة العلاقات الدولية.
وبرغم أن الأردن يحتفظ بعلاقات مستقرة مع شركاء دوليين، فإن جولة الجلالة الملك الآسيوية قدّمت مسارا جديدا يعزز قدرة المملكة على تنويع مصادر الدعم الاقتصادي وتوسيع تحالفاتها السياسية، في وقت تتصاعد فيه حدة التحديات في الإقليم، وعلى رأسها الحرب على غزة، وتداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية.
وهنا لا بد من معرفة أبعاد الجولة الملكية، من حيث التوقيت، والأهداف، والمحطات، والمخرجات، والانعكاسات المتوقعة، في سياق التحرك الأردني واتجاهاته المستقبلية.
لماذا تحرّك الأردن نحو آسيا الآن؟
تحمل جولة جلالة الملك الآسيوية مدلولات تتصل برؤية أردنية أوسع لإعادة بناء شبكة العلاقات الدولية، وتؤكد أن الأردن يسعى لتوسيع خياراته السياسية والاقتصادية، بعيدا عن الضغوط الإقليمية والدولية.
وبينما واجهت المنطقة تحديات متزايدة في السنوات الماضية، أظهر التحرك الملكي اتجاها واضحا نحو بناء شراكات قائمة على المصالح المتبادلة والتنمية المستدامة.
وتعد جولة جلالته خطوة ضمن مسار طويل الأمد، يعيد تموضع الأردن على خريطة التفاعلات الدولية، ما يتيح الاستفادة من فرص اقتصادية وسياسية تمتد من طوكيو إلى إسلام آباد، بما ينسجم مع أولويات الدولة الأردنية واستراتيجيتها المستقبلية.
كما يأتي التحرك الذي قاده جلالة الملك نحو آسيا في وقت يُعاد فيه تشكيل إطار جديد للنظام الدولي، ستتغير فيه العديد من المعادلات الاقتصادية والسياسية، ففي الأعوام الأخيرة، انتقل جزء كبير من الثقل الاقتصادي العالمي إلى الشرق، بحيث برزت دول مثل سنغافورة وفيتنام وإندونيسيا كقوى صاعدة تحتل مساحة متزايدة من التجارة العالمية، فيما تواصل اليابان دورها كأحد أكثر شركاء المنطقة استقرارا وتأثيرا.
لذا فإن الأردن بقيادة جلالة الملك يدرك أن المشهد الاقتصادي العالمي لم يعد يدار عبر الغرب الصناعي فقط، بل باتت آسيا ذات فاعلية اقتصادية كبرى، وشريكا أساسيا في سلاسل التوريد الدولية، والتكنولوجيا، والاقتصاد الرقمي، والصناعة، والطاقة، ومع هذا التحول، يصبح الانفتاح عليها خيارا منطقيا، يعكس قراءة أردنية لحركة الأسواق العالمية.
تطورات تدفع نحو تنويع الخيارات :-
إقليميا، تعيش المنطقة العربية على وقع أزمة ممتدة في فلسطين، وتوترات في البحر الأحمر، وتحديات أمنية مرتبطة بملفات سورية والعراق ولبنان، وهذه التطورات تضغط على اقتصاداتها، وتحدّ من قدرتها على النمو، وتدفع دول المنطقة للبحث عن شركاء خارج نطاق المجال الجغرافي التقليدي.
فبالنسبة للأردن، يوفر الانفتاح على آسيا مساحة واسعة للحركة لا ترتبط بتقلبات الإقليم، ويمنح المملكة فرصة لفتح قنوات جديدة للاستثمار والدعم السياسي خارج الأطر التقليدية في نطاق شراكاته وعلاقاته، وهذا بدوره يرتبط جذريا بالأفق الجديد لمنظومة العلاقات الدولية الآخذة بالتموضع، والتي ستنهض على التنوع والتعدد.وإلى جانب ذلك، فإن مساعي المملكة لتنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي تعزز من تنويع خياراتها وحركتها خارج الأطر التقليدية في النهوض باقتصادها، كما أنها تمتلك القدرة على خلق مناخات استثمارية أجنبية ومباشرة جديدة، تسهم بنقل التكنولوجيا وفتح أسواق جديدة، بالإضافة لدعم قطاعات إستراتيجية كالطاقة المتجددة والصناعات الغذائية والزراعة الحديثة. وهذا المناخ الفاعل يحقق تقدما حيويا في آسيا، التي أضحت بيئاتها مثالية لتحقيق شراكات متنوعة، نظرا لتقدمها في قطاعات التكنولوجيا والتحول الرقمي والتصنيع.
رؤية متعددة المسارات :-
وبرغم تعدد الملفات التي حملتها الجولة، فإن الأهداف التي تسعى لتحقيقها تكمن في تعزيز العلاقات السياسية مع قوى مؤثرة. فالعلاقة القائمة والممتدة للدول الخمس التي زارها جلالة الملك، لن تتوقف عند صياغة شراكات اقتصادية فحسب، بل ستفضي إلى صياغة حراك سياسي مؤثر وفاعل للأردن سياسيا في نطاق عمله مع المنظمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومجموعة العشرين ومنظمات التعاون الإقليمي في شرق آسيا.
كما حملت الجولة بعدا سياسيا واضحا مرتبطا بالقضية الفلسطينية والوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. ففي ضوء استمرار الحرب على غزة، كرس الأردن جل مساعيه في هذا النطاق لبناء موقف آسيوي داعم للحقوق الفلسطينية وللحل السياسي القائم على تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة.
فتح آفاق اقتصادية واستثمارية :-
وفي مسار استقطاب الأردن لاستثمارات مباشرة وتوسيع نشاط الشركات الأردنية في آسيا، والتي تمثل جزءا أساسيا من أهداف الجولة الملكية، تسعى المملكة لأن تعزز من جسور علاقاتها مع آسيا، في نطاق الجوار القاري، والفاعلية الاقتصادية، خصوصا في قطاعات الطاقة النظيفة والزراعة والتقنيات الزراعية والصناعات الغذائية والدوائية، والاقتصاد الرقمي والسياحة، وغيرها من الآفاق الحيوية التي بدأت تتبلور بقوة في الاقتصادات الآسيوية.
وهذا ما سيشكل نقلة حيوية متقدمة لتنويع آفاق التعاون والشراكات الدولية مع الأردن، وسيتيح الاستفادة من التجارب الاقتصادية الآسيوية في مجالات متنوعة، وتعميق حضور الأردن في نطاق القارة، وعلاقاتها الاقتصادية والسياسية.
حضور أردني في فضاءات جديدة :-
يشكل النهج الحيوي للسياسة الاقتصادية الأردنية، المتحقق في إطار التحديث والإصلاح، مساحة جاذبة للشراكات الجديدة، وهو ما سيعزز خطوة الأردن في الانفتاح على آسيا في نطاق متوازن، وفاعل ومؤثر، ما يحقق للأردن نسج شبكة علاقات متعددة الأطراف، في ظل عالم متعدد الرؤى والاتجاهات والآفاق.
ولقد ارتكزت الجولة الملكية التي استهلها جلالة الملك إلى اليابان، على تثبيت مسار الشراكة الأردنية اليابانية الذي يمتد لعقود؛ فاليابان من أكبر الداعمين لبرامج التنمية في الأردن، ومن أبرز الجهات التي موّلت مشاريع المياه والطاقة والبنية التحتية، بحيث تناولت اجتماعات جلالة الملك في طوكيو ملفات متعددة، أبرزها دعم المشاريع الاستراتيجية الأردنية وتعزيز الاستثمارات التكنولوجية والتعاون في الطاقة المتجددة وإدارة المياه، وتنسيق المواقف بشأن تطورات الأحداث في غزة والقدس.
وبرغم أن العلاقات بين البلدين مستقرة تقليديا، لكن الزيارة جاءت لترسيخ التعاون في الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، وهي مساحات جديدة لم يكن التعاون فيها بالعمق نفسه سابقا.
فيتنام : فرصة اقتصادية واعدة :-
وفي جولة جلالة الملك التي زار فيها العاصمة الفيتنامية هانوي، ركز جلالته على فتح أسواق للمنتجات الأردنية، وتعزيز التعاون في التصنيع الغذائي والدوائي، والاستفادة من التجربة الفيتنامية في دعم المشاريع الصغيرة، وبحث الشراكات في التكنولوجيا والزراعة الحديثة.
ففيتنام، بثقلها الصناعي والزراعي، تمثل نموذجا للاقتصاد الصاعد الذي يتمتع بقدرة على النمو السريع، وهي نقطة مركزية في الجولة الملكية نحو جنوب شرق آسيا، إذ توفر سوقا ضخمة وممرا لدخول الأسواق الآسيوية الأخرى.
سنغافورة: الاقتصاد الرقمي والمستقبل :-
وفي سنغافورة؛ الدولة التي تُعد من أنجح التجارب التنموية عالميا، ركزت المباحثات على التحول الرقمي وتطوير الخدمات الذكية للحكومات، وبناء شراكات في التكنولوجيا المتقدمة وفتح آفاق التعاون في التعليم والتدريب وتعزيز التجارة والاستثمار.
وفي هذا النطاق، فإن الرؤية الأردنية ترى أن سنغافورة يمكن أن تكون بوابة لنقل تجارب ناجحة إليه في الحوكمة والكفاءة الإدارية والاقتصاد المعرفي.
إندونيسيا: شريك في العالم الإسلامي :-
كما يرى الأردن أن إندونيسيا ليست فقط أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، بل هي اقتصاد يحجز موقعه بين القوى العالمية، إذ ركزت زيارة جلالة الملك للعاصمة الإندونيسية جاكرتا على تعزيز التعاون في قضايا العالم الإسلامي، ودعم الموقف الأردني تجاه القدس، وفتح أسواق للأدوية والأسمدة الأردنية، والتعاون في مجال السياحة الدينية وبناء شراكات اقتصادية طويلة الأمد.
كما بحث الجانبان تعزيز التنسيق في المواقف تجاه القضية الفلسطينية داخل المنظمات الدولية.
باكستان: تعاون أمني وإستراتيجي :-
وفي المحطة الأخيرة للجولة، بحث جلالة الملك في العاصمة الباكستانية إسلام آباد، التعاون في مكافحة الإرهاب والتدريب العسكري، والتنسيق في ملفات الأمن الإقليمي ودعم الموقف الأردني في ملف فلسطين، وتعزيز التجارة والاستثمار، إذ تكتسب هذه المحطة أهمية خاصة نظرا لتقاطع المصالح بين البلدين في القضايا الأمنية والسياسية. وتحمل العلاقات الأردنية- الباكستانية بُعدا أمنيا وعسكريا مهما.
الرسائل السياسية للجولة :-
وفي وقت تعاني فيه المنطقة من تقلبات حادة، قدمت الجولة الملكية في آسيا صورة واضحة عن الأردن كدولة تتمتع باستقرار سياسي وقدرة على التواصل مع مراكز القوى العالمية. وقد جاءت هذه الجولة في لحظة سياسية حساسة، ترتبط باستمرار الحرب على غزة، ومع تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية.
وفي هذا السياق، شكّلت الزيارات الملكية للدول الخمس فرصة لإعادة القضية إلى طاولة دول تمتلك وزنا سياسيا واقتصاديا هاما، والتأكيد على أن المملكة لا تغيّر تحالفاتها، لكنها توسعها باتجاه قوى صاعدة، في إطار قراءة استراتيجية لموازين القوى الدولية.
وتؤسس تحركات جلالته في آسيا لمسار جديد يهدف لتعزيز التنمية الاقتصادية عبر شراكات تمتد لسنوات، إذ شهدت توقيع اتفاقيات في التكنولوجيا والطاقة والتعليم والصناعة والأمن والدفاع والزراعة.


