المستقل – كتب : راعي الجردا “ابو نايف”
دائمًا ما أحب أن أنظر إلى المشهد من منظور ثنائية الأضداد أو الأهداف، ولكن عشوائية المشهد العام وتلوثه بمشاريع واضحة في أهدافها، تختبئ خلف مبهم خطاباتها، وإن كان هذا المبهم يرتدي ثوب الخوف على الوطن وسيادته.
وفي زمن تختلط فيه الشعارات بالمصالح، وتصبح السيادة عند البعض موضوعًا قابلًا للمساومة في ميزان مصلحية الفكرة ومكاسب القضية، يجد المتابع نفسه مجبرًا على طرح السؤال الأهم: هل نملك مشروعًا وطنيًا حقيقيًا، أم أننا عالقون في دائرة مطالب لا تستند إلى رؤية واضحة؟ فالأمم التي تفقد بوصلتها سرعان ما تتحول إلى خشب عائم في بحر الاحتمالات، تتقاذفها الأمواج دون أن تجد لها مرفأً آمنًا.
أرى أن من يُصدر نفسه أو الآخرين على أنهم نخب سياسية، تنتهي نخبويتهم عند إطار التوصيف والتنظير، وأن بعضهم يتعمد استخدام توصيف خبيث لإطلاق تنظير مسموم. وعليه، فإنني أرى وبجلاء أن ليست كل نخبة نخبًا، وليست كل فكرة وعيًا. فبعض النخب تصنع التاريخ، بينما يكتفي البعض الآخر بلعب دور المتفرج، وينبري آخرون للمساومة على ما تم تحقيقه، أو الأسوأ من ذلك، يتحولون إلى أدوات تُستغل لصياغة مشهد يخدم مصالح ضيقة على حساب الدولة والمجتمع.
حين نعود إلى تاريخ الأردن، نجد أن المطالب الكبرى لم تكن يومًا وليدة اللحظة، بل كانت امتدادًا لقضايا متجذرة في الهوية والتاريخ. فعندما اجتمعت القيادات العشائرية في مؤتمر أم قيس عام 1920، لم تكن تبحث عن مكاسب شخصية أو تحسين مواقعها في معادلة الحكم، بل كانت ترسم ملامح كيان سياسي يحفظ السيادة ويصون الهوية. هؤلاء القادة، رغم امتلاكهم القليل من العلم، كانوا يمتلكون الكثير من الوعي. أما اليوم، فنجد بعض التحركات التي لا تستند إلى مشروع وطني، بل تنطلق من حسابات آنية، حيث أصبحت بعض الأصوات من داخل الأسر الملكية من الصفين الثاني والثالث، تسعى إلى إعادة تشكيل العقد الاجتماعي، ليس من باب تطويره أو الحفاظ عليه، بل من باب استثماره لتحقيق مكاسب سياسية أو حتى فرض واقع جديد يهدد السيادة الوطنية، مرتكزةً على خطاب فيه الكثير من العلم والقليل من الوعي.
ولا مجال هنا لمناقشة سياسات الإلهاء والتجويع والتجهيل التي تعرض لها المجتمع منذ زمن طويل.
الكل يتفق على أن العقود الاجتماعية ليست أوراقًا تُبدَّل حسب الأهواء، بل هي توازنات تُبنى عبر الزمن، ولا تتغير إلا إذا حدث تحول جذري في الجغرافيا أو الديموغرافيا. فما الذي تغير في الأردن لنشهد هذه الدعوات المتكررة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي؟ هل هناك أزمة حقيقية في علاقة الدولة بالمجتمع؟ أم أن بعض مراكز القوى تسعى لإعادة تموضعها عبر خطاب يُوهم الناس بأن العقد الاجتماعي لم يعد صالحًا، بينما الهدف الحقيقي هو انتزاع مزيد من النفوذ والمكاسب؟ إن أخطر ما يمكن أن تواجهه الدول هو أن تتحول القضايا الوطنية الكبرى إلى أدوات للمساومة، أو أن تصبح السيادة موضوعًا يُطرح وفق منطق التعويض والتفويض، وكأنها سلعة يمكن التفاوض حولها.
السيادة ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة، بل هي جوهر الوجود الوطني، وهي الحق الذي لا يقبل المساومة تحت أي ظرف. ومن يدرك تاريخه، يدرك أن القوانين السيادية لا تُكتب بالحبر القابل للمحو، ولا تُخضع لمنطق الابتزاز السياسي. حين اجتمع الأجداد في السلط عام 1920، كانوا يؤسسون لدولة يكون القرار فيها للأردنيين وحدهم، لا لأصحاب المصالح العابرين، ولا للباحثين عن أدوار تتجاوز طبيعتهم السياسية والاجتماعية. وبالتأكيد، كانوا يمتلكون الكثير من الوعي، ليكون امتداد المشهد وبهاء الصورة في مؤتمر أم قيس من العام نفسه، حيث تجلّت صورة العقد الاجتماعي الأردني في أبهى صوره، ورُسم المشروع السياسي بوضوح.
اليوم، نجد أن بعض الشخصيات التي لا تحمل صفة دستورية، بل توضع تحت مجهر الاتهام كلما تحرك قلمها أو نطقت ببنت شفة، تحاول إعادة رسم المشهد من خلال خطابات تسعى إلى تشويه العقد الاجتماعي، إما بتقديمه على أنه انتهت صلاحيته، أو بالدعوة إلى تغييره تحت ذرائع مختلفة. لكن الحقيقة الواضحة هي أن المشكلة ليست في العقد الاجتماعي، بل في انتهاكه المستمر من قبل أولئك الذين يريدون إعادة توزيعه بما يخدم مصالحهم الخاصة، أو حتى لصالح أجندات خارجية.
حين نسمع بعض الأصوات تتحدث عن ضرورة “أم قيس 2″، علينا أن نسأل: هل الهدف هو تصحيح المسار أم البحث عن مكاسب سياسية؟ هل هناك خطر حقيقي يستدعي إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، أم أن ما يجري هو مجرد محاولة لإعادة ترتيب موازين القوى داخل الدولة نفسها؟ إن إعادة إنتاج الأزمات عبر خطاب سياسي يفتقر إلى رؤية واضحة هو أحد أخطر التهديدات التي تواجه الدول، لأن ذلك لا يقود إلى حلول، بل إلى مزيد من التشظي والانقسام.
الأردني الذي يعرف تاريخه لا يحتاج إلى من يخبره من هو. الهوية ليست ورقة تفاوض، والسيادة ليست ملفًا مفتوحًا لإعادة التفاوض، والمطالب التي لا تستند إلى مشروع وطني ليست سوى صدى لمصالح ضيقة. إن بناء المشروع الوطني لا يكون بإعادة إنتاج الأسئلة ذاتها مرارًا، بل بالإجابة عليها وتحويل هذه الإجابات إلى قرارات وسياسات. الأمم لا تبني مستقبلها بالرهان على شخصيات، بل بالرؤية التي تسبق الجميع وتبقى بعدهم. إذا كنا نبحث عن سيادة حقيقية، فعلينا أن ندرك أن الطريق إليها لا يكون بالتنازل ولا بالمساومة، بل بالتمسك بالثوابت التي صمدت أمام كل العواصف، وعدم السماح لأي طرف، مهما كانت خلفيته أو صفته، أن يحوّل العقد الاجتماعي إلى أداة للصراع السياسي.