المستقل – كتب : عمر كامل السواعدة
أسأل هنا عن بنية القبول الاجتماعي لا عن المصير الفردي، فالإشكال لا يكمن في غياب التقدير، بل في عجز المجتمع عن احتضان الفاعل الوطني وهو حاضر وفاعل، الأردني الذي يتقدم بخطاب سيادي واضح، ويتحمل كلفة الموقف علنا، لا يقابل غالبا بوصفه إضافة جماعية، بل يستقبل كعبء رمزي، لأن حضوره الحي يفرض مقارنة مباشرة، ويكشف تفاوتا في الاستعداد لتحمل المسؤولية، ويحول الصمت المحيط به إلى موقف مكشوف، في هذا السياق، لا يتم “اعتناق” الأردني إلا بعد تحييده الكامل من المجال العام، حين ينفصل الموقف عن صاحبه، وترفع المقارنة، ويعاد تبني المعنى بصورة رمزية وآمنة. الاعتناق هنا لا يكون تعبيرا عن نضج اجتماعي، بل عن حاجة لاحقة لامتلاك الخطاب بعد تفريغه من قدرته على الإحراج أو الإدانة، وعليه، فالمسألة ليست أن الأردني يجب أن يموت، بل أن المجتمع لا يحتمل الأردني الحي حين يكون معيارا، ولا يعتنقه إلا بعد أن يفقد قدرته على أن يكون كذلك.
وفي السياق الأردني تحديدا، تتجلى مفارقة إضافية تزيد هذا الخلل تعقيدا، إذ يُطلب من الفرد أن يدافع بلا انقطاع عن الدولة والملك والجيش والأجهزة الأمنية والمجتمع والعادات والتقاليد والدين والرموز الوطنية والعلم والنجمة والحكومة وكل ما يُقدَّم بوصفه ثابتا غير قابل للنقاش، ويُدان أخلاقيا واجتماعيا إن تراجع أو صمت أو اختار الحذر، ويُوصم فورا بعدم الوطنية ويتعرض للإزدراء. غير أن هذه المطالبة الكثيفة لا تُقابل بعقد حماية أو اعتراف، بل تنقلب في لحظة الاختبار إلى تنصل كامل، حيث يجد الفاعل الوطني نفسه وحيدا أمام أدوات العقاب، ليتفاجأ بأحدهم، وبكل برود، يضع القيد في يده، ويزج به في السجن، ثم يقول له بلا تردد: ما حد طلب منك تدافع. هنا لا تظهر المفارقة بوصفها خطأ فرديا، بل بوصفها سلوكا اجتماعيا مستقرا، يحمّل الفرد واجب الدفاع حين يكون ذلك مريحا للجماعة، ويتنكر له بالكامل حين تصبح الكلفة حقيقية. هذا النمط لا يثبط الفعل الوطني فحسب، بل يحوّل الوطنية ذاتها إلى فخ أخلاقي، يُستدرج إليه الأفراد باسم الولاء، ثم يُتركون لمصيرهم حين يتحول الولاء إلى عبء.
وقد قال لي صديق ذات خيبة: ليس الغريب تفرق الأردنيين، بل الغريب اجتماعهم، لا أشير هنا إلى انعدام الحس الجمعي أو ضعف الانتماء، بل إلى طبيعة الاجتماع ذاته، ففي لحظات الضغط البنيوي، لا يتشكل الاجتماع حول الموقف الأكثر وضوحا حتى حين يكون متصلا مباشرة بمصلحة الدولة، بل حول السردية الأقل كلفة نفسيا وسياسيا، الاجتماع لا يتم حول الحقيقة، بل حول ما يخفف وطأتها.
سياسيا، يمكن تفسير هذا السلوك بوصفه آلية غير معلنة لإدارة المخاطر، فالموقف السيادي الصريح، خصوصا حين يتناول قضايا الهوية الوطنية، أو السيادة، أو حدود الدولة الرمزية والسياسية، يفرض تبعات مباشرة على المجتمع، انحيازا، مواجهة، وربما تضحية، أما تحييده أو الصمت حياله، فيسمح بتأجيل هذه التبعات، لذلك لا يقصى الموقف لأنه خاطئ، بل لأن المجتمع يرى أن الاعتراف به في لحظته مكلف.
في الحالة الأردنية، كثير من المواقف تكون متسقة قانونيا واستراتيجيا مع منطق الدولة، ومع ذلك يفشل المجتمع في منحها شرعية اجتماعية موازية، لأن المجتمع لا يرى نفسه شريكا في قرارها ولا طرفا في توزيع كلفتها، هنا لا يقصى الموقف بسبب خطئه، بل بسبب غياب عقد المشاركة الرمزية الذي يسمح بتحمل الكلفة جماعيا، ويؤدي هذا الانفصال إلى تحميل الموقف عبئه وحده، وتحميل حامله تبعاته كاملة.
اجتماعيا، يعاد إنتاج هذا النمط عبر ما يمكن تسميته “اقتصاد القبول العام”، فالمواقف التي تكافأ ليست الأكثر دقة أو عمقا، بل الأكثر قابلية للاستهلاك دون التزام، ومع الزمن، يتعلم الفاعلون، بوعي أو بدونه، أن السلامة تكمن في الغموض والتملص، وأن الوضوح والمواجهة يفضيان إلى العزلة، وهكذا لا يقمع الموقف بالقوة، بل يجفف تدريجيا عبر حرمانه من التداول المشروع.
يضاف إلى ذلك عامل لا يقل خطورة، يتمثل في تضخم الأنا الأردنية بوصفها عائقا بنيويا أمام الاعتراف والاعتناق، فالأنا حين تتحول من وعي بالذات إلى حساسية مفرطة تجاه التفوق الرمزي للآخر، تصبح مانعا نفسيا واجتماعيا للاحتضان لا حافزا له، الفاعل الوطني لا يواجه أحيانا لأنه مخطئ، بل لأنه يكسر توازنات نفسية قائمة على مساواة وهمية بين من تحمل الكلفة ومن تجنبها، هذه الأنا المتضخمة سهلة الاستثارة، وسهلة التوظيف من قبل أي طرف ثالث، داخلي أو خارجي، يبحث عن تعطيل الفعل الجمعي، إذ يكفي تحريك مشاعر الغيرة، أو الاستعلاء، أو المظلومية الفردية، لتحويل النقاش من سؤال المصلحة العامة إلى صراع ذاتي ضيق، وهكذا لا يجهض الفعل الوطني بالقمع المباشر، بل بتفكيكه من الداخل عبر تضخيم الأنا وتحويلها إلى أداة تشكيك وإحباط وانقسام، ما يجعل الاعتراف بالفاعل أو اعتناق الموقف مستحيلا طالما ظل وجوده يقرأ كتهديد للذات لا كرافعة للجماعة.
في هذا السياق، تبرز مسؤولية النخب الوسيطة بوصفها حلقة مفقودة في تفسير الظاهرة، فالأكاديميون، والإعلاميون، والمثقفون، وقادة الرأي، ليسوا أصحاب القرار ولا جمهور الشارع، لكنهم الجسر الذي يفترض أن يترجم الموقف السيادي إلى معنى قابل للفهم الاجتماعي، في التجربة الأردنية، غالبا ما فشلت هذه النخب في أداء هذا الدور، إما بالصمت، أو بالحياد السلبي، أو بالاكتفاء بخطاب آمن لا يشتبك مع جوهر المسألة، ونتيجة هذا الفشل، ترك الموقف السيادي مكشوفا، بلا وساطة تفسيرية، وبلا حماية رمزية، فبدا للمجتمع كعبء معزول لا كضرورة عامة.
تاريخيا، تتكرر هذه الظاهرة في محطات متعددة من التجربة الأردنية الحديثة، مواقف وقرارات وأصوات حملت منطق الدولة في مواجهة مشاريع التفكيك أو الذوبان أو الوصاية، تم مواجهتها اجتماعيا في حينها بالتحفظ أو الصمت أو الاتهام، ثم أعيد الاعتراف بمنطقها لاحقا بعد تغير الظروف أو انكشاف النتائج، في كل مرة، يتأخر الاعتراف إلى ما بعد تحييد الخطر اجتماعيا، لا إلى لحظة الحاجة إليه.
وإنني لطالما قدمت نصيحة منهجية للمشتغلين بالهم الوطني مفادها أن ييمموا وجوههم نحو صحيفتهم أمام الله والتاريخ، لا نحو انتظار اعتراف اجتماعي متقلب، فالتجربة تظهر أن الرهان على الذاكرة الجمعية القصيرة رهان خاسر، وأن الموقف الذي يبنى على انتظار التقدير الفوري ينتهي غالبا إلى التهميش أو الإقصاء أو النسيان.
يمتد هذا التشخيص ليطال البنية الاجتماعية ذاتها، وبحسب تعبير أحدهم، أن قوما ما: فارسهم مذبوح، وكريمهم مفضوح، وحكيمهم مسطوح، بالضرورة، لم يكن المقصود بهذه العبارات الإساءة بقدر ما كان توصيفا لوظيفة اجتماعية مختلة، تفكك عناصر القوة الرمزية بدل حمايتها، وتعري من يتحمل الكلفة بدل تحصينه، وتترك المجال العام مفتوحا أمام التفاهة لا أمام المسؤولية.
ضمن هذه البنية، تتشكل مفارقة إضافية؛ الدفاع عن الهوية الوطنية يتم أحيانا نيابة عن فئات لا ترى في هذا الدفاع إلا مادة للطعن والتشكيك، لا لأنها تمتلك مشروعا مضادا متماسكا، بل لأنها تعمل ضمن منطق استهلاكي سياسي، يفضل الاتهام على الفهم، ويستسهل الطعن بدل تحمل كلفة التحليل، وهكذا يقاتل البعض دفاعا عن هوية لا تدافع عن نفسها، بل تنقلب اجتماعيا على من يتصدى لحمايتها.
الأخطر أن هذا النمط لا يبقى اجتماعيا صرفا، بل يتقاطع مع تحول في أدوات الإقصاء ذاتها، فبدل القمع الصريح تستخدم اليوم أدوات الاستنزاف البارد، الملاحقة الإدارية، التضييق القانوني، الإرباك المهني، والتآكل النفسي، بما يسمح بتحييد الموقف دون تحويل صاحبه إلى رمز علني، في هذا السياق، يجد بعض من حملوا الموقف السيادي أنفسهم محاصرين أو ملاحقين في فضاءات الاغتراب، لا لأن المجتمع يرفض مضمون الموقف، بل لأنه لا يحتمل من يدفع كلفته حيا وفاعلا، لكأن توفيق أبو الهدى، بوصفه نموذجا للمشاريعية السياسية المقنعة بالقانون، ما يزال حيا في البنية العميقة، يقوم بقتل وصفي ألف مرة في اليوم، عبر إعادة إنتاج مناخ العداء للوضوح، والتواطؤ الاجتماعي مع استهداف من حملوا منطق الدولة، على مرأى ومسمع من مجتمع منهك.
هذا المجتمع المنهك المشغول بمعركة البقاء اليومية، البحث عن الدواء، وشربة الماء، ورغيف الخبز، ليس محل إدانة أخلاقية في هذا السياق. وفي ظل هذا الإنهاك، تصبح الحقيقة السياسية عبئا إضافيا، ويغدو الموقف السيادي ترفا نفسيا لا قدرة على احتماله، فيستبعد لا لأنه خطأ، بل لأنه يتعاطى مع مجتمع مرهق أو لنقل تم ويتم إرهاقه.
تنتج عن ذلك ثقافة الاعتراف المؤجل، ثقافة لا تعترف بالموقف إلا بعد تحييد صاحبه، ولا تحتفي بالوضوح إلا بعد زوال خطورته، الاعتراف بالحي يفرض تبعات ومسؤوليات، والاعتراف بعد تحييده لا يفرض شيئا، ومن هنا يبدو وكأن على من يدافع عن الدولة أن يموت رمزيا حتى يعاد الاعتراف به.
إن ربط قيمة الموقف بهذا الاعتراف المؤجل يعد خطأ كارثيا، فالموقف السيادي لا يستمد شرعيته من المزاج العام، بل من اتساقه مع شروط بقاء الدولة واستقلال قرارها، كثير من السياسات التي تحمي الدول لا تكون شعبية في لحظتها، وكثير من السرديات التي تحظى بإجماع واسع تتبين لاحقا كعوامل إضعاف لا تعزيز.
من هنا، لا تطرح مسألة الاعتراف بوصفها مطلبا شخصيا أو اجتماعيا، بل بوصفها مؤشرا على خلل أعمق في إدارة الوعي والذاكرة الوطنية، فالمواقف التي لا تحول إلى نصوص تحليلية مكتوبة، ولا تؤطر كمعرفة قابلة للفحص والنقد، تبقى عرضة للمحو أو التشويه أو إعادة التأويل وفق الحاجة، الذاكرة الشفوية لا تحمي، والاحتفاء المتأخر لا يصلح خلل اللحظة.
الخلاصة أن الإشكال ليس في أن ينسى من تحمل كلفة الموقف، بل في أن تدار الذاكرة الوطنية اجتماعيا على نحو يعاقب الوضوح ويكافئ الغموض، وهذه بنية تضعف الدولة قبل أن تضعف الأفراد، لأنها ترسل رسالة ضمنية مفادها أن من يتحمل كلفة المعنى في وقته يتحملها وحده، ومع تراكم هذا النمط، يتآكل الاستعداد الجمعي لتحمل الكلفة، ويستبدل المعنى بالسلامة، والفعل بالتحايل، والقرار بالتأجيل.
إن تجاوز هذا الخلل لا يتحقق بالخطابة ولا بالاستعطاف، بل بتحويل الموقف إلى أثر معرفي مكتوب وقابل للمساءلة والأرشفة، فالتاريخ، حين يكتب بمنطق الدولة لا بمنطق الخوف، يعيد ترتيب الوقائع وفق ضرورتها لا وفق قدرتها على الإزعاج، وما يحمى بالنص يبقى، حتى إن تأخر الاعتراف به، أو لم يأت أصلا.


