المستقل – كتب: فيصل أسامة النجداوي
لا نستطيع ونحن نتابع النشاط التوعوي المذهل الذي قام ويقوم به الناشط الأستاذ موسى الصبيحي منذ أن أطلق استقالته التاريخية من مركزه الوظيفي بمؤسسة الضمان الاجتماعي قبل سنتين، لا نستطيع أن نُصنّفه ضمن المتقاعدين، فقد نشر منذ ذلك الوقت أكثر من (800) مقال ومنشور تأميني طالت كافة أمور الضمان وسياساته التأمينية والاستثمارية وأحدثت حالة وعي عام شاملة في المجتمع بالحقوق والالتزامات التي قرّرها قانون الضمان للفئات المنضوية تحت مظلته، وأطْلَعَت الناس على كل ما يتعلق بالضمان وكل ما يجري داخل هذه المؤسسة العريقة التي هي مؤسسة كل مواطن وكل عامل على أرض المملكة، وهذا يحدث لأول مرة، لا بل وامتدّ نشاط الصبيحي إلى مختلف آفاق الحماية الاجتماعية بما يملكه من ثقافة قانونية عميقة واطلاع وقدرة هائلة على المتابعة والتحليل والتشخيص والتنبؤ بالمشكلات والأزمات وتقديم الحلول والمعالجات التي يراها مناسبة وناجعة.
أقول هذا الكلام وهو شهادة لي عن قرب بالصديق الصبيحي وأنا مُطّلع على حجم التحديات التي واجهها، والاتهامات التي كِيلَت له ظلماً وجُزافاً، والذي يعرِف الصبيحي معرفة بعمق حتى قبل أن يترك عمله الوظيفي بالضمان يدرك حقيقة أن الرجل كان ولا يزال يعبّر عن قناعاته بكل صراحة ودون أي مجاملة لأحد أو طمع في منصب أو مكسب، ولو كان طامعاً لسار في تيار “الموافقين” و “هزّازي الرؤوس” على كل ما كان يُملَى، وعلى سياسات وبرامج لم تكن تخلو من الفجاجة والرجاجة والعَجاجة، لكنه أبى إلا أن يكون حُرّاً وصاحب رأي وكلمة وموقف ولم تنحرف بوصلته عن الوطن ومصالح الناس قيد أنملة، وهو ما أزعج البعض، الذين ألّبوا عليه جماعاتهم وهاجموه وخوّنوه..! لكن الحقيقة تبقى حقيقة مهما حاول البعض طمسها، وأشعة الشمس تبقى نافذة مهما حاول البعض حجبها بغرابيلهم، وهذا ما شهد به كثير من المنصفين والمراقبين ويعلمه الكثير من صُنّاع القرار في الدولة.
الصبيحي استقال من مؤسسته مُكرَهاً مظلوماً، وعندما سألته يومها لماذا استقال ولماذا لم يبقَ شوكة أمام السياسات التي كان يراها خاطئة ولا تحقق مصلحة مؤسسته وجمهورها، قال لي بأنه لم يعد يحتمل وأن بقاءه يعني انفجاره من الداخل..!
ومع ذلك استمر في إثارة الوعي منذ اليوم الأول لتقاعده، وشكّل حالة فريدة من نوعها للموظف العام ما بعد تقاعده، حالة رسّخت كل معاني الانتماء والولاء المؤسسي والوطني، دون أن ينظر إلى ما ينظر إليه الكثيرون من مطامح ومكاسب، فراح ينشر التوعية في شؤون الضمان ويجيب على أسئلة الناس اليومية ويعقد المحاضرات والندوات ويشارك في اللقاءات باذلاً كل ما باستطاعته من جهد ووقت ومعرفة لإيصال رسالته إلى الناس، مما حقّق تقدّماً غير مسبوق على طريق طويل لا ينتهي عنوانه (حقّك تعرف عن الضمان)، وعندما سألته ذات يوم متى ستنتهي هذه السلسلة اليومية التي تكتبها تحت هذا الشعار، قال لي: لن تنتهي وستبقى إلى ما شاء الله ما استطعت إلى ذلك سبيلاً..!
السؤال الذي أطرحه اليوم أمام هذه الحالة: هل تريد الدولة حالة فريدة كهذه التي شكّلها الصبيحي في استمرار العطاء التطوعي والانتماء للموظف العام لفترة ما بعد تقاعده فتشجّعها وتدعمها وتُحفّزها أم لا تريد فتُحبطها وتتجاهلها وتحاربها..؟!
ما رأيته في نموذج الحالة التي مثّلها ولا يزال الأستاذ موسى الصبيحي هو غياب أصحاب القرار عن مثل هذه الحالة وصمت بعضهم صمتاً مطبقاً عنها، وتعبير البعض عن رفضها وربما محاربتها وإنْ بصمت، فيما بعض قليل يدعم على استحياء وخجل وتوجّس..!
كلامي اليوم أوجّهه لصاحب الأمر في الدولة ولصاحب التاج، للملك عبدالله الثاني ابن الحسين الذي أقرأ في كل خطاباته وكلماته أنه يبحث عن المخلصين المخلصين الصادقين المنتمين من أبناء وطنه، عن الشخصيات المسكونة بحب الوطن ومصالحه، عن الكفاءات الوطنية المفعمة بالحيوية والنشاط من أجل الوطن ومصالح أبنائه وصناعة مستقبله الآمِن الزاهر..
أقول لجلالته هذا مثال ونموذج حي لشخصية عامة استحوذت على ثقة واسعة جداً بين الأردنيين، شخصية شجاعة مثقفة معطاءة واثقة مُفكّرة منتمية قيادية كانت ولا تزال تُجدّف بقوة باتجاه الوطن ومصالحه، وتواجه كل الأمواج المعاكسة وتيارات الرياح الغادرة.. هذه الشخصية ظُلِمت وبُهِتت وحورِبت وجرت محاولات كثيرة لتثبيط عزيمتها وإحباطها، لكن كل هذه المحاولات لم تُثنها عن مشروعها ولم تنل من عزيمتها، بل زادتها إيماناً وإصراراً وإقداماً واستمراراً على ذات الطريق والدفع بقوة وعزم وثقة باتجاه مصالح الوطن والمواطن.