المستقل – بقلم أ.د . حكم شطناوي
تشير أدبيات السياحة الرياضية إلى أن الأحداث الكبرى مثل كأس العالم تمتلك قدرة فريدة على رفع الوعي العالمي بالبلد المشارك، وتعزيز صورته الذهنية وإبراز قوته الناعمة، وتحفيز رغبة المشاهدين في زيارة البلد الذي يشاهدونه. وعليه، فإن تأهل الأردن لكأس العالم 2026 ليس مجرد إنجاز رياضي، بل لحظة تاريخية نادرة تتيح للبلد فرصة فريدة لإعادة تشكيل صورته أمام العالم وتعزيز علامته الوطنية (Nation Branding).
مواجهة الأرجنتين، الفريق الأكثر شعبية عالميًا، والمشاركة في مجموعة تضم النمسا، إحدى الدول الأوروبية المصدرة للسياح، تمنح الأردن منصة إعلامية واسعة لتسويق نفسه على مستويات متعددة تشمل السياحة، الاستثمار، الثقافة، والهوية الوطنية. المشهد الذي يراه العالم في تلك اللحظات لن يكون مجرد مباراة، بل نافذة لرؤية الأردن الحقيقي: بلد آمن، متنوع، مليء بالحياة، ويمتلك القدرة على المنافسة والتألق.
قبل هذا التأهل، كانت الصورة الذهنية للأردن محدودة إلى حد ما، حيث يربطه العالم بمنطقة مضطربة. رغم أن البتراء، وادي رم، البحر الميت، وجرش تمثل صورة إيجابية، إلا أنها كانت جامدة، كأن الأردن “متحف حي” أكثر من كونه دولة حية ومبتكرة. ومن هنا يظهر دور كرة القدم ليس فقط في إثارة الحماس، بل في إعادة التخييل، أو ما يعرف علميًا بـ Re-Imaging، أي إعادة تقديم الأردن بصورة جديدة تعكس حيويته وطموحه، دون محو العناصر الإيجابية السابقة. مباراة أمام الأرجنتين أو النمسا قد تصبح اللحظة التي تتحول فيها فكرة الأردن لدى الملايين من مجرد موقع تاريخي إلى قصة بلد شاب، رياضي، مبتكر، قادر على المنافسة، ويحتضن تجارب سياحية وثقافية مميزة.
لتحويل هذه الفرصة إلى مشروع وطني حقيقي، يجب تشكيل غرفة عمليات تسويقية وطنية تضم الاتحاد الأردني لكرة القدم، هيئة تنشيط السياحة، مؤسسة تشجيع الاستثمار، القطاع الخاص، السفارات الأردنية في الخارج، الإعلام المحلي والمستقل، المؤثرين الدوليين، وبإشراف أعلى السلطات بالقصر الملكي. هذه الغرفة ستصوغ الرسائل التي نريد أن تصل للعالم: هل نريد التركيز على الأمن والاستقرار وسط إقليم مضطرب؟ أم نريد أن نبرز عجائب الطبيعة والتراث الثقافي، مثل البتراء، البحر الميت؟ ويمكن أن يكون موقع المغطس رسالة قوية كرمز للسلام والتاريخ الديني. تكمن الأهمية في اختيار الرسالة التي تناسب جمهور كل مباراة؛ فالأرجنتين تمثل جمهورًا عالميًا واسعًا، بينما النمسا تمثل سوقًا سياحيًا أوروبيًا يمكن استهدافه بعروض سياحية أكثر تخصصًا.
الابتكار والتكنولوجيا سيكونان في قلب هذه الاستراتيجية. يجب البدء منذ الآن بتصوير نجوم المنتخب الأردني، خصوصًا المحترفان في أوروبا وآسيا، داخل بيئتهم المحلية وفي أماكن أيقونية مثل سيق البتراء وأمام الخزنة، وهم يلعبون كرة القدم، يسبحون في البحر الميت، أو يتناولون الطعام في أبراج عمان لإبراز حداثة الدولة وحيويتها، والابتعاد عن تصوير “الجمل” وكأنه وسيلة مواصلاتنا السياحية. هذه الصور يجب أن تكون جاهزة لاستخدامها فورًا في التقارير الإخبارية العالمية، لتظهر الأردن كبلد رياضي وثقافي وحيوي. يمكن اعتماد الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR) في المحتوى الرقمي ليشعر المشاهدون وكأنهم يتجولون في البتراء أو يطفون في البحر الميت.
ولا يقتصر الابتكار على المحتوى الرقمي، بل يشمل تجربة الملاعب نفسها، حيث يمكن أن ترتدي الجماهير قمصانًا تدمج شعار النشامى مع رموز البتراء أو البحر الميت، وتعرض اللافتات التفاعلية على الشاشات الكبيرة صورًا حيّة للمعالم الأردنية وتاريخها وثقافتها، في حين يتولى اللاعبون تقديم رسائل قصيرة باللغتين الإنجليزية والإسبانية تعكس التراث الأردني وروح الجماعة والصمود. كما يجب استثمار الإعلام العالمي بشكل ذكي من خلال استضافة المعلقين والمحللين الرياضيين الدوليين في الأردن قبل انطلاقة كأس العالم، وتنظيم جولات سياحية لهم لتصوير محتوى إعلامي يروج للبلد، بالإضافة إلى التعاون مع المؤثرين الرقميين لتوسيع نطاق الوصول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يصبح الأردن حاضرًا في كل قصة يُحكى عن المونديال.
يمكن أن تُصمم حملة مستمرة بعد البطولة مباشرة لتستهدف الأسواق الأوروبية والآسيوية، مع التركيز على الأمن، الثقافة، المغامرة، والعلاج السياحي في البحر الميت، بحيث تتحول المباراة إلى جسر طويل الأمد لبناء صورة مستدامة للأردن. في نهاية المطاف، يمكن أن تكون مباراة الأردن–الأرجنتين والمباراة أمام النمسا أكثر من مجرد تحدٍ رياضي، بل فرصة تاريخية لصناعة قصة وطنية جديدة. هي فرصة لرسم صورة الأردن ليس فقط على الشاشات، بل في وعي العالم، حيث يظهر كبلد آمن، متنوع، غني بالتراث، مبتكر، ووجهة سياحية واستثمارية جذابة. كل هدف يُسجل، وكل لحظة تُبث، تصبح جزءًا من حملة عالمية لإعادة تعريف الأردن، ومن هنا تبدأ رحلة بناء العلامة الوطنية (Nation Branding) بشكل دقيق ومبتكر، يترك أثره لأعوام طويلة، ويؤكد أن السياحة الرياضية ليست مجرد رياضة، بل أداة قوية لتسويق الدولة وإعادة رسم صورتها الذهنية على المستوى الدولي.
أ.د/ حكم شطناوي- أستاذ السياحة وادارة الضيافة – جامعة اليرموك


