المستقل – كتب : د . عمر كامل السواعدة
حين وقف الغزاة على الباب… فاختاروا ألا يطرقوه
في كل عام تهلّ علينا ذكرى الخامس والعشرين من أيار، فنسترجع معها قصة وطن مختلف، قصة لم تُكتب على صفحات الاحتلال، بل على سطور الرفض، قصة الأردن الذي لم يخضع، بل أفشل مشروع الخضوع قبل أن يبدأ. يُصرّ البعض عند هذه الذكرى أن يُشكّك، أو أن يطرح تساؤلات يغلفها الجهل أو يحرّكها القصد: “هل كنا مستعمرين؟ وهل خضنا نضالًا لنيل استقلالنا؟” وكأننا جئنا من فراغ، وكأن الجغرافيا الأردنية لم تكن على تماسٍّ مع أطماع الإمبراطوريات، وكأن هذه الأرض لم تُستهدف، ولم تُرسم لها خرائط في مكاتب سايكس وبيكو، ولم تُدرج في معادلات النفوذ البريطاني.
الاستعمار لم يكن دائمًا دبابات تُغلق الشوارع، أو جنودًا يحتلون العاصمة. أحيانًا، تكون أطماع السيطرة أدهى وأمكر، وأكثر خبثًا من أن تُعلن صراحة. منذ انهيار الحكم التركي، اجتمعت القوى الكبرى لاقتسام تركة الرجل المريض، وكان نصيب شرق الأردن أن تُوضع تحت “الانتداب” البريطاني. لكنّ بريطانيا، رغم توقها للسيطرة، لم تجرؤ على فرض احتلال عسكري مباشر، كما فعلت في فلسطين والعراق. لا حبًا ولا تفضّلًا، بل لأن الأرض التي أرادت السيطرة عليها كانت أرضًا عصية، وناسها لا يُحكمون بالقوة.
هذا ليس تحليلاً عاطفيًا، بل ثابت موثق في أرشيفات وزارة الخارجية البريطانية، وفي تقارير المندوب السامي هربرت صموئيل نفسه، الذي قالها صراحة إن احتلال شرق الأردن سيُكلّف المال والرجال والدم، لأن أهله ليسوا من طينة الخضوع، بل من سلالة الثورة. قبائل شرسة، وقيادة هاشمية قادمة من مكة، ثائرة على الأتراك، لا تزال سيوفها تقطر من ندى الثورة العربية الكبرى.
في ظلّ اتفاقية سايكس-بيكو، التي سعت لاقتسام المشرق العربي، ومع صدور وعد بلفور الذي أعطى الصهاينة ما ليس لهم، كانت بريطانيا ترسم حدود النفوذ وتعيد تركيب الخرائط السياسية، لكنّها وجدت نفسها أمام منطقة لا تصلح للاحتلال: شرق الأردن. الضباط البريطانيون أوصوا باجتياحها، وفرض إدارة مباشرة، لكنّ صموئيل رفض، لأن الأرض لم تكن خالية، بل كانت تعجّ برجال لا تهاب، وبقبائل ترى في الغريب طعنًا في الكرامة، وبمشروع وطني على وشك التشكل.
ثورات الأردنيين ضد لم تكن حدثًا عابرًا. كانت إنذارًا واضحًا لكل من تسوّل له نفسه العبث بشرق الأردن. لقد أدركت لندن أن هذه الأرض لا تُؤخذ إلا بثمنٍ فادح، وأن الصدام مع أهلها قد يُشعل تمردًا لا ينتهي. ولهذا، اختارت بريطانيا أن تتعامل معها بذكاء بارد، لا باحتلال مباشر، بل بوصاية ناعمة… إلا أن حتى هذه الوصاية لم تستمر كما أرادت.
حين دخل الأمير عبد الله بن الحسين إلى معان عام 1920، لم يكن ذلك بأمر من التاج البريطاني، بل بدعوة من وجهاء البلاد، وبناءً على نداء أهل أم قيس، الذين أرادوا أن يروا في القيادة الهاشمية امتدادًا للثورة، لا أداة للخضوع. دخل عمان لا بجيش احتلال، بل برفقة مشروع عربي صلب، نقيّ، موجوع من خيانات الأوروبيين، وغضب من صفقات سايكس وبلفور. ومنذ تلك اللحظة، بدأت نواة الدولة تتشكّل: إدارة، شرطة، قضاء، مؤسسات، كلها بملامح عربية، وبهوية أردنية لم تكن بحاجة لصكٍّ أوروبي لتثبت وجودها.
لم تقبل القبائل الأردنية أن تُدار شؤونها بغير أهلها. ومنذ تأسيس الإمارة، كانت الدولة تُبنى بإرادة داخلية، رغم العيون البريطانية التي لم تكفّ عن المراقبة، ولا عن المحاولات المتكررة لفرض الهيمنة. لكن كل تلك المحاولات تحطّمت على صخرة الرفض الهادئ، والحكمة السياسية، والتوازن الحذر بين الداخل والخارج. وبحلول عام 1946، لم يكن هناك احتلال يُطرد، بل وصاية تعترف بفشلها.
في 25 أيار من ذلك العام، أعلن مجلس الأمة الأردني إنهاء الانتداب، ليس بسلاح ثائر ولا بثورة مسلحة، بل بقرار سياسي حاسم، وبقيادة فرضت على البريطانيين أن يوقّعوا لا على وثيقة استسلام، بل على اعتراف رسمي بأنهم فشلوا في تطويع هذه الدولة الناشئة. كانت بريطانيا تعلم أن الأردن لا يمكن حكمه بالقوة، ولا يمكن شراؤه بالنفوذ، لأن فيه معادلة نادرة: قيادة ذات شرعية ثورية – دينية – عربية، وقبائل تعرف الشرف أكثر مما تعرف المصلحة.
يُقال إن الاستقلال يعني طرد جندي أجنبي، لكن في الحالة الأردنية، كان الاستقلال أشرف من ذلك بكثير. هو منع الجندي من الدخول أصلًا. هو تأسيس واقع فرض على الاستعمار أن يتراجع من غير معركة. أن تُهزم أطماع الإمبراطوريات دون طلقة واحدة، تلك هي البطولة التي لا تُكتب في الكتب، بل تُحفر في ذاكرة الأوطان.
يُخطئ من يظنّ أن الاستقلال الأردني كان استردادًا لحق مغتصب. بل كان تثبيتًا لحق لم يُنتزع قط. الأردن لم يُستعمر، لأن مشروع الاستعمار سقط قبل أن يبدأ. فشلت القوى الكبرى، وانكفأ الاحتلال، لا لأنه عجز عن التقدّم، بل لأنه أدرك أن التقدّم سيشعلها نيرانًا لن تخمد. هذا هو الفرق بين الاستقلال الأردني وغيره. لم يُحتفل فيه بخروج محتل، بل بفشل المحتل في أن يكون له وجود من الأصل.
حين تنظر في تاريخنا، ترى أن هذه الأرض كانت دومًا على تماسٍّ مع النار، ومع ذلك لم تحترق، بل صمدت. لأن فيها رجالاً لم يرضوا الدنية، وقبائل لم تتاجر بالهوية، وقيادة هاشمية أبت إلا أن تبقى صاحبة القرار. فحين يُقال: هل كان لنا نضال؟ نعم. لكنه نضال من نوع آخر. نضال في منع النفوذ قبل أن يستفحل، وفي بناء الدولة تحت عيون المتربصين، وفي تثبيت العرش لا كامتداد للاستعمار، بل كتتويج لثورة لم تكتمل بعد.
إن من يعتقد أن الاستقلال لا يكون إلا بطرد مستعمر، لا يفهم أن المعركة الأهم أحيانًا هي التي تمنع الاستعمار من البدء. وأولئك الذين يُشككون في معنى الاستقلال الأردني، عليهم أن يسألوا أنفسهم: كيف فشلت الإمبراطوريات الكبرى في فرض سلطتها على هذه الأرض؟ كيف استطاع الأردن، بقيادته وناسه، أن يُرعب خرائط الاستعمار؟ أن يفرِض على بريطانيا أن تدير ظهرها، لا لأن مشروعها انتهى، بل لأنه لم يبدأ أصلاً؟
هذا هو استقلالنا… استقلالٌ لم يُنتزع، بل فُرض فرضًا على الطامعين. وهو أعظم شرف، لأنه يقول للعالم إننا لم نكن ضحية مرحلة… بل كنا استثناءها. لم يُرفع علم غريب، بل رُفعت راية التاج الهاشمي، تحتها القبائل، وفوقها القرار الأردني، حولها دولة نُسجت بالإرادة لا بالإملاء.
وإن كان البعض يختلف على التسمية، بين “عيد استقلال” أو “يوم وطني”، فليسمّوه ما شاءوا، لكن المعنى واحد: هو يوم سقوط المشروع الاستعماري في الأردن. يوم فشلت فيه بريطانيا في أن تحكم. يوم انتصر فيه الرفض الصامت على الصوت العالي. يوم بُنيت فيه الدولة قبل أن تُفرض. ومن هنا، فلنقلها بلا تردد: لم نحرر أنفسنا من الاحتلال، بل حررنا العالم من وهم إمكانية احتلالنا.
فلا تسألني بعد اليوم: “هل كنتم مستعمرين؟”
بل اسأل نفسك: “كيف فشل الاستعمار أن يبدأ من هنا؟”
وهذا – والله – أشد شرفًا من كل استقلال جاء بعد احتلال.