المستقل – بقلم : العميد المتقاعد هاشم المجالي
كان في الناس زمنٌ يُقال فيه: “حقّ العودة”، فإذا بنا اليوم في زمنٍ يُقال فيه: “حقّ الإبادة”!
كان اللاجئ يَحلم بمفتاح داره، فإذا به اليوم يُمنَح شهادةَ وفاةٍ بدلاً من تصريح العودة.
ما أعجب هذا العالم! قلب المعنى حتى صار المظلوم متَّهَمًا، والقاتلُ صاحبَ حقٍّ مقدّسٍ في القتل!
وكانوا من قبل يصدّعون رؤوسنا بعبارة: “لإسرائيل حقٌّ في الدفاع عن نفسها”، فإذا بنا نكتشف أن الدفاع المقصود هو الهجوم، والحق هو الباطل، والسلام هو الحرب!
واليوم، إذا تكلّم عربيٌّ عن أمنه، قيل له: “اسكت! فأمنك خطرٌ على أمن إسرائيل!”
وكان في الدنيا ما يُسمّى بحرية الرأي، حتى إذا ذُكرت إسرائيل أُغلِقت الأفواه، وكُسِرت الأقلام، ونامت الضمائر في أحضان الرعب!
لقد صارت حرية التعبير مثل الكهرباء في بلادنا: تُقطع عند الحاجة، وتُعاد عند الرضا السياسي!
وكانت الصحافة تُسمّى السلطة الرابعة، فإذا بها اليوم المسخرة الأولى!
قُتل الصحفيون، وأُغلقت العدسات، ثم خرجوا يقولون في نشراتهم: “لقد ماتوا في سبيل الحقيقة!”
الحقيقة؟ أيّ حقيقة؟ حقيقة الرصاصة في الرأس، أم الكذبة في البيان الرسمي؟
وكانت هناك محكمةٌ تُدعى “العدل الدولية”، فإذا بها اليوم محكمةُ الهوى والهوية، تحاكم بأمر الدولار، وتُصدر الأحكام حسب خريطة النفوذ.
أما “الجنائية الدولية”، فشأنها أعجب من العجب؛ لا ترى إلا ما يُؤذن لها أن تراه، وتصاب بالعمى حين تمرّ الجرائم الإسرائيلية أمامها!
وكانت الأديان ثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، حتى خرج علينا رجلٌ من وراء المحيط، اسمه ترامب، فجمعها في ديانةٍ واحدةٍ سماها “الإبراهيمية”، وادّعى أنه نبيّها المرسل!
يا للعجب! رجلٌ لا يحفظ من الإنجيل إلا رقم الحساب البنكي، أراد أن يعلّمنا طريق السماء!
وكانت إسرائيل كيانًا غريبًا بين الأمم، فإذا بها اليوم تسكن العواصم العربية، وتجلس على موائد الملوك والأمراء كأنها أختٌ كبرى!
كان كيانًا واحدًا، فصار عائلةً من الكيانات الصغرى تتحدث بالعربية وتفكر بالعبرية!
وكانت ألعاب الأطفال عرائس وكرات، فإذا بها اليوم أسلحةٌ رقميةٌ لتدريب الصغار على القتل قبل الكلام.
وكانت مجالس النساء للحديث عن المطر والمواسم، فإذا بها اليوم تُدكّ بالصواريخ باسم الحرية والدفاع المشروع!
أما الأطباء والمسعفون، فكانوا ملائكة الرحمة، فإذا بهم اليوم أهدافٌ عسكريةٌ مشروعة، يقتلون وهم يحملون الضمادات بدل البنادق.
حتى المشفى — ذلك البيت الأبيض للنجاة — صار اليوم مسرحًا للذبح، تُقدَّم فيه الحياة قربانًا لآلهة الحديد والنار!
وكانت المروءة زينة الرجال، فإذا بها اليوم موضة قديمة لا تليق برجال السياسة!
وكانت النخوة شرفًا، فإذا بها اليوم تُصنَّف في قاموس الدول تطرّفًا وإرهابًا.
أما الأخلاق والدين والمروءة، فصارت كلماتٍ محفوظةٍ في النشيد الوطني، تُقال في الافتتاح وتُنسى في الممارسة!
يا للعجب!
انقلبت الدنيا رأسًا على عقب حتى صار المجرم مصلحًا، والمصلح إرهابيًّا، والشهيد مجرمًا، والقاتلُ ضيفَ شرفٍ في المؤتمرات الدولية!
زمنٌ إذا ابتسم لك قالوا: “تقدّم”، وإذا بكيت قالوا: “تخلّفت”!
فيا حسرةً على هذا العصر، عصرٍ لا يُقاس فيه الحقّ بالعدل، بل بموقفك من إسرائيل!
ولعلّ اليوم الذي نرى فيه الأمم تبكي على فلسطين، سيكون اليوم الذي تستيقظ فيه الضمائر من سباتها … إن بقي للضمائر بقيّة!


