المستقل – ابراهيم عبد المجيد القيسي
كنا نعتقد أن «السكران» فقط هو من يستمع للموسيقى ويهتم بها، لكننا لم نكن كذلك حين كنا نشد الرحال إلى «الياروت»، لنشاهد المطربين يغنون هناك، وكان لمدير الإذاعة والتلفزيون «الوزير الأسبق نصوح المجالي»، الفضل في تثقيفنا بالموسيقى والطرب، وفي بعض ليالي الصيف، حين كنا ننتظر الليل لننام، ونريح أجسادنا الغضة من فرط التعب اليومي والعمل اليدوي القاسي، «ياما تركنا الفراش» وسرينا، إلى الأعراس التي كانت تستضيف المطربين، وشاهدنا سميرة توفيق، وفؤاد حجازي ومحمد وهيب واسماعيل خضر، وفارس عوض وغزلان، وسلوى، وروحي الصفدي ورامز الزاغا وأنطون شمعون..الخ نجوم الفن آنذاك، وكل هذه الأسماء عرفناها من خلال تلك الأمسيات، وحفظنا عن ظهر قلب وطيب خاطر وإثارة أغانيهم.. وحين «اشترينا» تلفزيون أبيض وأسود، كانت والدتي حفظها الله تغضب من تعليقات المرحوم والدي حين يشاهد من كنا نسميها «سميرة تافيق»، وكنت أعتقد بأن سميرة تافيق ما غيرها، فنانة أردنية بدوية، ولم أعرف بأنها لبنانية إلا في بداية تسعينيات القرن الماضي، وهي معلومة «قللت» من أهمية هذه المطربة بالنسبة لي، حيث أيقنت بأن تلك الرنة في صوتها وتلك العيون، ليست بدوية أردنية، فاختلطت المعايير في نفسي، وتراجعت ذكرى وصورة الفنانة في ذاكرتي إلى الخلف..
لم أشارك في أي جدل أو حوار المتعلق بمناهج المدارس الحديثة، ولم أبحث عن حقيقة خبر ما يتناقله الناس من صور ونصوص يزعمون بأنها موجودة في مناهج بعض صفوف مدارس أطفالنا، ولو تأكدت يقينا بأنها فعلا موجودة في تلك المناهج، لما تسرعت بتقييم قبل أن أبحث في كل محتوى المناهج التي يتحدث عنها الناس بعلم أو بغير علم، لكنني أعلم بأن «لا دخان دون نار»، لكن حتى لو رأيت الدخان فيلزمني أن أعرف وأفهم أين مكان النار وما الغرض من إشعالها، ولماذا هذا القدر من الدخان المتصاعد منها..
لو صح وجود درس أو صورة أو ذكر للمطربة سميرة توفيق ونصوص أغانيها، فيلزمني أن أسأل هنا: هل هناك شيء متعلق ب»فارس عوض»، المطرب البدوي الأردني، الذي ما زلنا نتذوق حنينا طاهرا كلما سمعنا مقطعا من أغانيه «هيهي يابو شعور مجدلات»..»يابو خديد منقرش».. و»عمان يادار المعزّة والكرم».. أو أغاني العملاق الكبير المرحوم «توفيق النمري»، حيث أعتقد بأن هذا الفنان ما زال يتربع حتى اليوم على عرش الأغنية الأردنية، وهو المؤسس الحقيقي للأغنية الأردنية ذات الهوية الوطنية الجميلة، وصاحب اليد الطولى في تطوير الموسيقى واللحن الأردني..أقول لو بحثت في ذلك المنهاج ولم أجد درسا عن هؤلاء، أو نشاطا مطلوبا من الطلبة حول أعمالهم، ووجدت شيئا من ذلك متعلقا بسميرة توفيق، لقلت بأن الذي وضع المنهاج أو قدم رأيا حوله «لا يعرف شيئا» عن الأغنية الأردنية، ولا يعرف فنانيها الأردنيين، وذلك قبل أن أوجه له اتهامات بالتخوين والعمالة والتآمر على الهوية الأردنية.. فالموضوعية والمنطق والحوار العلمي كلها مطلوبة حين نتحدث عن مناهج تربوية.
الموضوعية تقتضي أن نعترف بانهيار الحواجز كلها أمام ثقافة العولمة، التي تقودها صناعات وسلع، وتتطلب فنونا في التسويق بغرض انتاج كائن عالمي كثير الاستهلاك، ومهما تمسكنا بتاريخنا وأعرافنا وقيمنا ومبادئنا وعقائدنا، قيلزمنا الانفتاح على هذه الثقافة، التي لن نملك فرصة للمشاركة فيها و»توطينها» على مقاسنا ما دمنا لا نتعامل بالموضوعية المطلوبة، ولا يجب أن نتفاجأ لو جاء يوما فاكتشفنا بأن لا كراسي في البلد ولا رجال ولا رماح، سوى طوابير من خيول «طروادة»، وحصانها الشهير.
إما أن تتحدثوا بموضوعية أو «إسكتوا» واسمعوا ما شئتم من الابتهاج وأغانيه وكلماته.
“الدستور”