المستقل – ابراهيم عبدالمجيد القيسي
«القانون لا يحمي المغفلين»، هذه أول قاعدة قانونية، يجب أن يتذكرها من سيعتبر نفسه ضحية لقانون الجرائم الإلكترونية، الذي ينتظر الإجراء الدستوري الأخير المتبقي، للعمل به واعتباره ساري المفعول..تجنبنا الخوض في الجدل الذي رافق مناقشة القانون في غرفتي مجلس الأمة، لكنني وقبل أن أتعمق بالحديث، يجب أن أذكّر هنا، بأنني ربما أكون أكثر من كتب عن هذه الفوضى، التي وفرتها شبكة الانترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي، ولم أكن أتحدث عن خطرها لأسباب اجتماعية او حتى اقتصادية وسياسية، بل فوق كل هذا لأسباب صحفية، مهنية، ووطنية متعلقة بخطاب دولة، وكنت من أوائل الصحفيين الذين حذروا من خطر الإعلام الإلكتروني في ظل غياب قانون ينظمه، وخطر انهيار الذائقة والقيم ومستوى التفكير، وتنامي الجدل العقيم والخلق الذميم، وصولا لفقدان الموازين وبلوغ درجة التفاهة، والسخرية وفقدان الثقة بكل شيء.. وكل هذا حدث مع كل أسف، وأصبح القانون والعدل واحترام حقوق وحريات وحرمات الآخرين، هو الغريب والمرفوض حسب قناعات المستفيدين من الانفلات، والمتاجرين بالإشاعة والسخافة والرداءة.إن وجهة نظر الصحافة المهنية ووسائل إعلامها، لم تتغير، وعلى الرغم من أن هذا القانون سيوفر بيئة مناسبة لإنصاف مهنة وأخلاقيات الصحافة، واستعادة دورها وألقها المسروق، وترسيخ وتعميم المهنية، والتمييز بين رأي الناس ووجهة نظرهم، وبين مهنة نقل الحقيقة الثابتة، وتوظيفها لخدمة دولة ومجتمع ومؤسسات عامة وخاصة، وخدمة القانون والقيم المثلى، والأخلاقيات والحريات.. على الرغم من هذا إلا أننا لا يمكن أن ننكر التخوّف من التطبيق، فالذين سيستغلون القانون عند تطبيقه، كثيرون، بل إنهم هم أنفسهم الذين يرفضونه، وهذا سيشكل ضغطا على مؤسسة القضاء، ليس فقط بسبب كثرة العمل، بل أيضا بسبب الجهد الكبير الذي سيتم بذله والبحث فيه، توخيا لإصدار أحكام عادلة نزيهة، فالتمييز بين مهنة وحق الصحفي بمطاردة المعلومة والحقيقة، وتقديمها بطريقة أخلاقية، والقيام بواجب الانتقاد للخلل والعلل، يحتاج وقتا وربما تشريعا جديدا ليرسو في الذهنية العامة، ولا أقول في ذهنية رجال القضاء ولا في ذهنية الصحفيين المهنيين.هل تعلمون كم هو حجم خسائر الدولة والمجتمع بسبب حالة الفوضى التي جاء القانون لوقفها وإنهاء خطرها؟!..ليست الخسائر فقط اجتماعية وسياسية واقتصادية، بل إن أهمها وأخطرها، يتمثل بمسخ تفكير فئة كبيرة من قطاع عريض، كان وما زال هو قوة الدولة الفعلية ورصيدها وذراعها للبقاء والبناء، وهم الشباب، فهل يعلم بعضنا أو كلنا، بأن تفكير وموازين ومقاييس كثير من شبابنا، تعرضت للتشويه؟.. كل هذه الأجيال التي تفتحت عقولها على متابعة الشأن العام من خلال الانترنت والفوضى السائدة في وسائل التواصل، تعتبر التجريح والشتيمة والسخرية المهينة والتعرض لأعراض وسمعة وحقوق وعقائد الناس والسلطات، تعتبره عملا طبيعيا مقبولا، بل يعتبرونه وعيا وحرية وحقا دستوريا مكتسبا، وهذا مثال يتجلى فيه حجم الرداءة والتفاهة والانمساخ الفكري، لأن أهم طاقة في المجتمع تفكر وتتفاعل مع الشان العام بأفكار خاطئة، تتجاوز عن العدالة والمنطق، وتتعارض مع الحريات واحترام حقوق الآخرين، وتمتنع عن الاحتكام للحقائق.. مثال يتجلى فيه تعميم الجهل والسلبية ليصبحا نمط تفكير وحياة، وهذا أخطر شيء قدمته فوضى التواصل وانفلاتاتها الكثيرة.هذا القانون وحسب اعتقادي، وفر مساحة كافية للصحافة ولوسائل إعلامها المهنية ولنقابتها، وللدولة بمختلف وسائل اعلامها، ان تستعيد زمام المبادرة لترميم الثقة بين الناس والدولة، وتقديم خطاب مهني يقدس الحقيقة ويحارب الظلم والفوضى، ويتقصى حماية البلاد والمجتمع والمؤسسات، ويعمم الوفاء والانتماء والعطاء والبناء.نعم؛ نتفاءل كل الخير بالقانون لأننا نؤمن بعدالة ونزاهة القضاء، وبصدق هموم الأردنيين لمزيد من بناء لدولتهم وحماية مستقبلها، ورفضهم لكل أشكال الفساد وجهات الاستبداد.