23.1 C
Amman
الثلاثاء, أغسطس 26, 2025
spot_img
الرئيسيةمقالاتالتحايل على الذاكرة

التحايل على الذاكرة

المستقل – كتبت : د . نهلا عبد القادر المومني

يتميز الإنسان بقدرته اللامتناهية في التحايل على ذاكرته، يختلق الأساليب ويجد الحجج، ويقف أمام ذاكرته ندًا ومحاججًا حتى يُطفئها، فهو غير قادر على التعامل مع الذكريات السيئة والجميلة على حد سواء.

التحايل على الذاكرة يُمارس على مستوى الأفراد والجماعات على حدّ سواء، يُتقنه الإنسان العربي أكثر من غيره؛ فهو مثقل بذاكرة ضخمة، ببيانات تفصيلية، يضاف لها عاطفة تغلبه، وأحلام بعيدة عن الواقع، ووقوف كثيرٌ على الأطلال، يمتد لسنوات موغلة في القدم، منذ “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”.. مرورا بـ”لخولة اطلال ببرقة ثهمد» وانتهاءً بـ”هل غادر الشعراء من متردم”، معلقاتٍ سبع تشكل عصب الشعر العربي، كلّها كانت تحاول التخلص في كلماتها من الذاكرة كانت تُلقي بها في ثمانيةٍ وعشرين حرفًا أثقلن من ذاكرة تضج وتضوج وتنوء بما تحمله.

ليس ببعيد يطبق العالم النظرية ذاتها يزيح من أمام ناظريه قضايا ظاهرة غير مُختلف عليها، يضعها في قاع الأولويات الحضارية والإنسانية؛ يشاهد القتل والدمار عبر الشاشات، يسوؤه الظلم ويندد به، يردد الأسماء التي أخذت بقوة الغدر والصمت وبعد فترة وجيزة؛ ليُسكت ذلك الضمير يلقي ذاكرته كلها في كتب التاريخ وعلى الشواهد ويشعل الشموع تخليدا للأشخاص والأحداث -كما يقال- تلك التي ما أشعلت إلا لتصبح بعد دقائق معدودة مادة منسية، مذابةً لا يكاد يذكرها أحد.

يأتي المحتل أيضا فلا يتحمل ضآلة حجمه أمام أسماء المدن والطرق التي أخذها عنوة وتزويرا، فيبدأ بمحو ذاكرة الأماكن ويستخدم أدوات ممنهجة لتغيير اسمائها ومسمياتها.

عبر العصور كذلك لم تكن الذاكرة تستطيع أن تحمل كل مآسي البشرية ولم تكن الأوراق قادرة على أن تفي بالغرض؛ فنقلت ذاكرتها إلى مسلات حجرية بالكاد استطاعت أن تتحمل وزر ما فيها إلى يومنا هذا، بالرغم من صلابتها وقسوتها.

على جانب آخر، يلتقط الهاتف النقال أجمل الذكريات وتلك التي لن تتكرر، يقف الإنسان في كثير من الأحيان أمامها عاجزا، بالرغم أنها من صنيعته، ترهقه ولا يتحمل حتى تفاصيلها وسعادتها أحيانا فيفرغها على جهاز آخر بحجة التخفيف من حمل الذاكرة، وهو يعلم جيدا انه لن يعود إليها وان مصيرها مع الزمن يذهب إلى حيث المجهول، لكنه التحايل على الذاكرة؛ فضجيج الذكريات بقدر السعادة التي تجلبها قد تجلب ألما مشابها، إنّه الهروب الممنهج من الأماكن والأشخاص.

يبدو أن الذاكرة يثقل جثمانها مع الوقت، هي التي تبدأ صغيرة بتفاصيلها وتأخذ أبعادا اكبر كلما بقيت حاضرة في النفس، لذا كان يتوجب على الإنسان أن لا يُرهق اكثر من ذلك بذاكرته ولا أن يرهقها.

في خضم ذلك كله، تبقى الحقيقة الثابتة بأن هناك ذاكرة مهما غادرناها لا تغادرنا، انه تحايل كاذب في كثير من الأحيان وفي أغلبها، تحايل لم يقدر أن تكتمل له عناصر جريمة التحايل كما حددها القانون ففقدت أحد أركانها الأساسية وفقدت شرعيتها في كلّ مرة وبقيت عالقة بين الأجيال، يتوارثون حزنها وألمها وسعادتها أحيانا، انها الذاكرة التي تبقى مخزنة مهما حاول الإنسان التحايل عليها، تظهر في لفتاته وتصرفاته وفي حديثه وفي أحلامه كذلك.

“الغد”

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -

اقرأ ايضا