المستقل – كتب : اسامة الرنتيسي
مهرجان جرش وإدارته لا يستحقان هذا الجحود والتشكيك في رسالته الوطنية وضمائر القائمين عليه. فمن يقتنع بضرورة دعم المهرجان واستمرار الفرح كنوع من المقاومة فأهلا وسهلا به، ومن لا يقتنع بأهمية المهرجان في هذا الوقت كل الاحترام لوجهة نظره ولكن من دون مزاودات على أحد. وجع غزة وأهلها أصابنا جميعاً، لكننا ما زلنا نردد “علّ صوتك بالغناء، فالاغاني ممكنة”.
معركة بيروت العظيمة عام 1982 التي مضى عليها نحو 42 عامًا، وما زال جرحها ينزف وصمود مقاوميها أسطورة، يحفظ يومياتها الناس من صوت فرقة العاشقين وكلمات أحمد دحبور. “اشهد يا عالم علينا وعَ بيروت اشهد بالحرب الشعبية. واللي ما شاف م الغربال يا بيروت أعمى بعيون أمريكية. بالطيارات أول غارة يا بيروت…فهل الغناء في الحياة مقاومة أم انكسار؟!”.
دون غزة ومجازرها، هناك من يرفعون الصوت عالياً كل عام ويصدرون البيان السنوي ويتهمون المهرجان وغيره من المهرجانات بـ”الفسق والفجور”.
هذا العام، صمت أصحاب البيان وتركوا لبعض المثقفين دور إدامة الخصام وتوسيع الخلافات، غافلين عن دور الفرح كجزء من العلاج الطبيعي لنكسات الحياة الكثيرة.
ليتمهل الشعراء ومن يعلن أنه غير مشارك في مهرجان جرش، فزمن البطولات الكلامية ولى، واليوم زمن الوقوف مع الحق والكرامة من دون مزاودات. فهل نحن في زمن أصبح الفرح نوعًا من خيانة الضمير؟!
القائمون على مهرجان جرش، ممثلون بالهيئة العليا للمهرجان برئاسة الوزيرة الواعية الملتزمة هيفاء النجار والمؤسسات المشاركة، والرئيس التنفيذي الدينامو أيمن سماوي، أدركوا قبل غيرهم بضرورة أن يكون المهرجان منسجمًا مع واقع حال شعبنا في الأردن وفلسطين وفي غزة تحديدًا. حولوا صوت المهرجان ورسالته لدعم المقاومة والشعب الفلسطيني بكل ما أتوا من قوة وإمكانات، حتى وصلوا إلى غزة واستضافوا فرقة “صول” ليخترق صدى صوتها العالم من جرش.
في غمرة انشغال عشاق الحياة بإعادة الروح ليومياتنا، تخرج أصوات تردد العبارات والبيانات ذاتها، توجه سهامها إلى كل فعلٍ فنيٍ أو ثقافيٍ تقدمي.
وا أسفى؛ في عقل الدولة وسلوك السلطات استسلامٌ برغبة أو في العقل الباطن لما تتطلبه ثقافة المجتمع المتدعِّش، ومواجهةٌ ضعيفةٌ في حالات كثيرة. هذه المرة تجرأت الحكومة وأعلنت دعمها للمهرجان ورسالته الحضارية الوطنية.
صناع الفرح في بلادنا قليلون، وحراس سنابل القمح من لهيب تموز وآب نادرون. فثمة أشياء ولّادة بالفرح، دعمها واجب، والبعد عنها ترك للحبيبة فريسة للغرباء وقطاع الطرق.
أكثر ما يتفق عليه الأردنيون في هذه الأيام ليس مرتبطاً بالمواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. الإجماع الأردني محدد في أن عطبًا ما أصاب منظومة الأخلاق في الأردن، بحيث أصبح الفساد فهلوةً، والكذب السياسي جدعنة وحنكةً، والخراب الاقتصادي سياسات متراكمةً.
معالجة منظومة الأخلاق والقيم ليست مرتبطة بقرار سياسي أو إداري، بل بسلوك مجتمعي. وخير من يبحث ويوجه البوصلة في هذا الشأن هم أصحاب الثقافة والفكر.
لا أحد ينكر أن الثقافة بشكل عام تعاني من التوتر. انظروا كيف أصبح مطربو “الهشِّك بشِّك” والمؤثرون بلا محتوى يحظون بالاهتمام والرعاية أكثر من المفكر والفيلسوف والشاعر والمبدع.
المثقفون وقادة الرأي استقالوا وتركوا أمر الثقافة للمشبوهين والعابرين. لقد جنح المثقفون إلى البيات الشتوي ورجال الفكر تركوا الساحة للمتنطعين والإمّعة. لقد أصيب العقل بانتكاسة، وأفلست الكلمة عندما غاب المثقفون الحقيقيون.
أهلاً وسهلاً بالفنانين المبدعين من مارسيل خليفة وسناء موسى وأميمة خليل وهبة طوجي وهيام يونس وفايا يونان وعمر العبداللات وفوز شقير وحسين السلمان ونداء شرارة، والكبيرة فنا وتأريخا والتزاما عفاف راضي… وشكراً على كل دينار يقدمه المهرجان لأهلنا في غزة هاشم.
الدايم الله…