المستقل – بقلم : خلدون ذيب النعيمي
المطلع على أهم سمات السردية الأردنية في تفاعل إنسانها في حضاراته المتتالية على ارض وطنه هو العطاء الدائم النابع من الانتماء الصادق القائم وان يكون لهذا الانسان بصمته الواضحة في تاريخه ونتاج تطوره في الحضارة الانسانية ، ومن ذلك فالسردية ليست بحكاية يسردها الحكواتي تنقضي بانقضاء كلامه بقدر ما تمثل هوية حقيقية يستند لتاريخها انسان هذه الارض المعاصر بما اختزنته من نجاحات مختلفة لتكون له الدافع ان يكون له دوره في السيرة الحضارية الشاملة لهذا الوطن ، فالإنسان هو الرهان الاول في البناء والعطاء بالنظر لفقر الموارد الاقتصادية رغم الموقع الحيوي للوطن الاردني في قلب العالم القديم .
ذياب الشمري معلم مدرسة مضى على عطاءه في رسالة بناة الاجيال ما يزيد عن خمسون عاما ومازال ينبض بعطائه المجيد بكل صدق رسالة التعليم ، الاستاذ ذياب مثال للإنسان المعطاء الاساس الذي قامت عليه الهوية الاردنية في سرديتها الخالدة ويزخر تاريخها بأمثلة عديدة عنوانها المعطاء في كافة الاصعدة ، فهو من قبيلة كريمة تعرف بين قبائلنا العربية بــ “شمر البيت المعمر” وتتوزع على الجغرافيا العربية حيث تفخر كثير من عائلاتنا الاردنية بانتسابها لهذه القبيلة ، ومن اهم ابناء شمر شهيد الوطن الخالد صالح الشويعر الذي كان مثالاً على استبسال الجيش الاردني في الدفاع عن الضفة الغربية خلال حرب حزيران 1967 واصبح ضريحه في مدينة نابلس مزاراً لأهلها وزوارها كعنوان للبطولة والتضحية في الدفاع عن عروبة فلسطين ، فكان الشهيد الشويعر وصحبه الشهداء المثال الحي في رفعة سردية الهوية الاردنية في العطاء بدمهم الطاهر كخضاب ماجد على جبين التاريخ .
التقيت بالأستاذ ذياب الذي درسني في بداية تسعينات القرن الماضي بعد اكثر من ثلاثين عاماً في احد مدارس منطقة الضليل وما زال العطاء المصحوب بالابتسامة الجميلة بألقه رغم مرور الزمن ، استرجعت ذكرياتي بالدراسة الاساسية بأناقة لبسه البدلة التي كانت عنوانا لمعلمينا في تلك الفترة كزي دائم يكسب مهنتهم الاحترام والتأكيد ان التعليم رسالة وقدوة قبل ان يكون وظيفة مرتبطة بساعات العمل فــ “التربية قبل التعليم” كانت رسالة المدرسة ومعلميها ، “منذ بدء عملي في التدريس عام 1975كان التعليم هو المتعة التي اجد فيها نفسي وانا الذي درست في الوطن وخارجه” هكذا قال لي استاذي بعد ان عرفته بنفسي وأضاف “العمر مجرد ارقام ان اقترن بإرادة العطاء وصدقه”.
الاستاذ ذياب الشمري الذي علم الاب وابنه على مستوى الوطن وخارجه بإرادة العطاء المتقدة بداخله هو المثال المبدع الجميل والحقيقي لسردية عطاء الهوية الاردنية ، نعم وبحمد الله وبكل الفخر تزخر سرديتنا الاردنية بالكثير ممن يحمل هوية العطاء ابتداءً من عطاء الدم لحماية امن الوطن والمواطن الى عطاء المعلم الذي يفرح بنجاح طالبه اكثر من نجاح ابنه لأنه بذلك يرى انه اعطى رسالة التعليم حقها بتجرده من رغباته الشخصية ، وبين هذا وذاك يبقى العطاء هو العنوان الاكبر في سردية الهوية الاردنية فمتعة العطاء بــ “الشيء تفوق متعة الحصول عليه” وهو الامر الذي لا يشعر به الا من كان الصدق هو عنواناً لعطاءه .


