المستقل – كتب : الدكتور عمر كامل السواعدة
الانهيار، ليس أخطر أزمات الدولة الحديثة لأن الانهيار تظهر ارهاصاته على مدى متطاول من الزمن بما يسمح أن تتصدى له القوى السياسية والاجتماعية، انما الأخطر أن تستمر الدولة دون معالم محسومة. ففي هذه الحالة لا تتوقف المؤسسات عن العمل، ولا يكفّ القانون عن النفاذ، ولا تنسحب الأجهزة من أداء وظائفها، ومع ذلك يفرغ الكيان السياسي تدريجيا من معناه السيادي. هنا لا تختفي الدولة، بل تدخل في حالة تعليق؛ تمارس السلطة دون سيادة فعلية، ويطبق القانون دون أن يؤسس لمعنى جامع، وتتم إدارة المجتمع بوصفه واقعا قائما لا مشروعا سياسيا. هذا النص لا يكتفي بوصف هذه الحالة، بل يحاكمها بوصفها خللا تأسيسيا يتجدد كلما امتنعت الدولة عن حسم سؤال تعريفها لذاتها.
السيادة، في مستواها الأنطولوجي، لا يمكن تمريرها بوصفها صفة تضاف إلى الدولة بعد تشكلها، ولا باعتبارها وظيفة قانونية تمارس ضمن نظام معياري قائم، بل بوصفها شرط الوجود السياسي للدولة ذاته. فالدولة لا توجد سياسيا إلا بقدر ما تكون قادرة على إنتاج قرار تأسيسي ينهي حالة “اللا تعيين”، ويحول الجماعة من معطى اجتماعي مفتوح إلى كيان سياسي مغلق المعنى. في هذا المستوى، لا يعود الدستور نصا أعلى ينظم السلطات، بل يتحول إلى لحظة وجودية فاصلة تخرج الدولة من حالة الإمكان إلى حالة التحقق، وتنقل فيها السلطة من حقل الوصف إلى حقل الإلزام. هذا القول يتماشى بتطابق مع ما تحدث به كارل شميت (Carl Schmitt) حين ربط السيادة بالقدرة على القرار في حالة الاستثناء، لا بوصف الاستثناء واقعة طارئة، بل بوصفه لحظة انكشاف للسيادة باعتبارها سلطة تحديد الوجود السياسي من عدمه. وهو متقارب جدا مع ما افترضه الفقيه هانس كلسن، وإن بصيغة مغايرة، حين جعل القاعدة الأساسية شرط إمكان النظام القانوني، هو الإقرار بأن القانون لا يؤسس نفسه، وأن كل نظام معياري يفترض سلفا سلطة غير معيارية تمنحه معناه وحدوده، أي سلطة سيادية سابقة على القاعدة ومتعالية عليها.
من هذا المنظور، لا يكون الخلل في الدولة خللا وظيفيا أو مؤسسيا فحسب، بل خللا في نمط وجودها السياسي حين تتراجع عن ممارسة فعل الحسم الذي به تتحدد ذاتها. فالدولة التي تمتنع عن إعادة إنتاج قرارها التأسيسي في مواجهة الوقائع المتغيرة لا تفقد سيادتها دفعة واحدة، بل تدخل في حالة وجود معلق، حيث تستمر البنى القانونية في العمل بينما يفرغ معناها الوجودي. هنا يتحول الدستور من حد أنطولوجي يغلق المجال السياسي إلى إطار إجرائي مفتوح، وتتحول السيادة من فعل تأسيسي إلى أثر إداري، وتستبدل القدرة على القول “ما هو” بالقدرة على إدارة “ما يحدث”. في هذه الحالة، لا تلغى الدولة ولا تعلق قوانينها، بل تنزع عنها قدرتها على أن تكون مرجعية نهائية لوجودها، فتغدو كيانا قائما من حيث الشكل، ومؤجلا من حيث المعنى، حاضرا بوصفه إدارة، وغائبا بوصفه قرارا.
ماكس فيبر (Max Weber) – مثلا – في محاضرة “السياسة بوصفها حرفة” يعتقد أن الدولة الحديثة لا تقوم فقط على احتكار العنف المادي المشروع، بل على احتكار الشرعية التي تجعل هذا العنف مقبولا اجتماعيا، ومفهوما بوصفه أداة استثنائية داخل نظام معنى مستقر. هذه الشرعية ليست تقنية، ولا تستمد من النصوص وحدها، بل تبنى عبر تراكم طويل من الوضوح الرمزي، حيث تعرف الدولة نفسها بوضوح، وتعرف حدودها ووظيفتها ومجال سلطتها دون تردد. حين يختل هذا الوضوح، يبقى الاحتكار القانوني قائما، لكن يتآكل القبول الاجتماعي، وتدخل الدولة فيما يمكن تسميته حالة “شرعية معلقة”، قائمة شكلا، لكنها قابلة للطعن الرمزي المستمر.
بيير بورديو (Pierre Bourdieu) ذهب أبعد من ذلك في دروسه حول الدولة، Sur l’État. Cours au Collège de France, 1989-1992 Paris حين قرر أن الدولة هي الفاعل الوحيد القادر على احتكار “الرأسمال الرمزي الأعلى”، أي سلطة فرض التصنيفات النهائية للواقع؛ ما هو سياسي وما هو غير سياسي، ما هو وطني وما هو خارج الإطار، ما هو مشروع وما هو غير قابل للتداول. الدولة الواضحة المعالم هي التي تنجح في فرض هذه التصنيفات دون حاجة إلى تبرير دائم، بينما الدولة غير الواضحة تفشل في احتكار هذا الامتياز، فتتحول إلى طرف داخل حقل تأويلي مفتوح، تتنافس فيه روايات داخلية وخارجية على تعريفها.
إن هذا الفشل لا ينتج تعددية منظمة، بل يفضي إلى ما يمكن تسميته، سوسيولوجيا، “تسييل المجال الدلالي للدولة”؛ ففي غياب تعريف سيادي مستقر، تصبح عناصر الدولة نفسها – التاريخ، الدور، الشرعية، الموقع، الوظيفة – مواد قابلة لإعادة الصياغة بحسب السياق والفاعل والخطاب. هنا لا يعود الخلاف السياسي محصورا في السياسات العامة، بل ينزلق تدريجيا إلى مستوى أعمق، حيث يصبح معنى الكيان ذاته محل “تفاوض دائم”. الأخطر في هذا المسار أنه لا يظهر كأزمة فجائية، بل كـ “تآكل بطيء”، يتراكم عبر الزمن حتى يفقد المجتمع قدرته على التمييز بين الاختلاف المشروع والتشكيك البنيوي.
سياسيا، يتجلى غياب وضوح معالم الدولة حين تنزاح من كونها فاعلا سياديا ينتج القرار إلى بنية إجرائية تدير نتائج قرارات لم تعد هي مصدرها. هذا الانزياح لا يفهم بوصفه خللا في الأداء أو ضعفا في السلطة، بل بوصفه تراجعا في القدرة على الحسم التأسيسي الذي يحدد ما هو سياسي وما هو خارج السياسة. فكما يبين كارل شميت في اللاهوت السياسي ونظرية الدستور (Théorie de la constitutio) لا تختبر السيادة في انتظام القواعد، بل في لحظة القرار عندما تصبح القاعدة غير كافية. وحين تستبدل هذه اللحظة بإدارة دائمة للتوازنات، لا تختفي السياسة، بل تنقل إلى مواقع أخرى، لأن الامتناع عن القرار ليس حيادا، بل قرارا سلبيا يفتح المجال لتأويلات وضغوط تمارس على الدولة باسم الواقع أو الضرورة. ومن زاوية مختلفة، يوضح هانس كلسن في النظرية الخالصة للقانون (Kelsen’s monistic theory of law) أن النظام القانوني يفترض دائما قاعدة أساسية لا يشتقها من ذاته، ما يعني أن القانون لا يستطيع أن يحل محل السياسة، بل يفترض سلطة سابقة قادرة على الإغلاق والحسم. وعليه، فإن الدولة التي تختزل السياسة في الإجراء تقع في وهم خطير؛ وهم أن القاعدة يمكن أن تعوض غياب القرار، بينما الحقيقة أن القاعدة لا تعمل إلا داخل أفق سياسي محسوم سلفا.
ويتعزز هذا التشخيص عند نيكوس بولانتزاس (Nicos-Poulantzas) الذي رفض اختزال الدولة في جهاز تقني ويعرفها بوصفها تكثيفا لـ “علاقات القوة داخل المجتمع السياسي”، بحيث تكون وظيفتها الأساسية تنظيم الصراع لا تعليقه. فالدولة الواضحة المعالم هي التي تحدد حدود الخلاف، لا التي تترك الإطار ذاته موضوعا للتنازع. وحين تفشل في ذلك، كما بين نيكلاس لومان (Niklas Luhmann) من منظور نظرية النظم، تفقد السياسة وظيفتها الأساسية في خفض التعقيد عبر قرارات نهائية، وتتحول إلى تداول دائم بلا إغلاق. وفي هذا السياق، تصبح “الواقعية السياسية” مجرد اسم آخر للتكيف، ويغدو الامتناع عن الحسم سياسة قائمة بذاتها. وقد حذرت حنة آرندت (Hannah Arendt) من هذا المسار حين بينت أن اختزال السياسة إلى إدارة يفرغها من قدرتها على إنتاج عالم مشترك، ويحول الدولة إلى كيان يبرر أكثر مما يقرر. هنا تحديدا يصبح غياب وضوح معالم الدولة خطرا سياسيا بنيويا، لأن ما كان يجب أن يكون إطارا ناظما للصراع يتحول إلى موضوع الصراع ذاته، وتدخل الدولة في حالة “دفاع دائم عن تعريف لم تعد هي من ينتجه”.
اجتماعيا، لا يفضي غياب وضوح معالم الدولة إلى تفكك ظاهر، بل إلى تآكل صامت في الرابطة السياسية التي تربط المجتمع بها. فالدولة – كما يبين تشارلز تيلي (CHARLES TILLY) في الإكراه ورأس المال والدول الأوروبية – لا تستقر عبر الإكراه وحده، بل عبر تحويل الامتثال إلى علاقة تبادلية منظمة، تقوم على توقعات متبادلة يمكن للمجتمع أن يبني عليها سلوكه ومواقفه. وحين تفشل الدولة في تثبيت تعريف واضح لذاتها، تفقد هذه التوقعات طابعها الاستقراري، ويتحول الانتماء من رابطة سياسية طويلة الأمد إلى “حالة مشروطة”، قابلة لإعادة التفاوض بحسب الظرف والضغط والسياق. هذا التحول لا يتجلى بالضرورة في صدام اجتماعي مباشر، بل في تآكل تدريجي لما سماه ماكس فيبر “الشرعية المألوفة”، أي قبول الدولة بوصفها حقيقة بديهية في الحياة اليومية لا موضوعا دائما للاختبار. وفي هذا المستوى، لا يخرج المجتمع عن الدولة، لكنه يتوقف عن الاستناد إليها كمرجعية نهائية، فتظل الدولة “قائمة شكليا”، بينما تضعف قدرتها على إنتاج “ولاء مستقر” يتجاوز الحسابات الظرفية.
سياديا، لا يقاس تآكل الدولة غير الواضحة المعالم بما تتعرض له من إكراه مباشر أو انتقاص صريح من اختصاصاتها، بل بما تخضع له من عملية “إعادة تأطير” خارجي مستمرة داخل الخطابات والمعايير والتصنيفات الدولية. هذا المفهوم حاضر بوضوح في أدبيات علم الاجتماع السياسي الدولي التي تدرس السيادة لا بوصفها حقيقة قانونية ثابتة، بل بوصفها “بناء اجتماعيا” قابلا لإعادة التعريف. أشار الى هذا الأمر ستيفن كراسنر (Stephen Krasner) في كتابه Sovereignty: Organized Hypocrisy أن السيادة تمارس تاريخيا كتنظيم متنازع عليه، وأن الدول التي لا تحسم تعريفها الذاتي تدرج بسهولة داخل صيغ وظيفية تحدد من الخارج، سواء بوصفها “دول عبور”، أو “دول احتواء”، أو “كيانات انتقالية”. ويكمل هذا المسار ما طرحته مارثا فينيمور وكاثرين سيكينك (Martha Finnemore and Kathryn Sikkink) في دراساتهما حول ديناميات المعايير الدولية (International Norm Dynamics and Political Change)، حيث أوضحتا أن: المعايير لا تضبط السلوك فحسب، بل تعيد تشكيل هويات الدول ذاتها، وتفرض عليها أدوارا تقدم بوصفها “طبيعية” أو “ضرورية” في النظام الدولي.
في هذا الإطار، لا تنتزع السيادة عبر فعل قسري مباشر، بل تفرغ تدريجيا من مضمونها السياسي عبر توصيفات متراكمة تعيد تحديد موقع الدولة ودورها وحدودها دون حاجة إلى تدخل صريح. وقد نبه – في هذا السياق – ميشيل فوكو (Michel Foucault) في السلطة/المعرفة إلى أن أخطر أنماط السيطرة لا تعمل على مستوى الإخضاع الجسدي أو الاحتلال المباشر، بل على مستوى إنتاج الأطر المعرفية التي يفكر من داخلها الواقع السياسي ذاته، حيث تتحول الهيمنة إلى فعل غير مرئي يمارس عبر اللغة والتصنيف وآليات الوصف. ومن زاوية قريبة، يضيف بيير بورديو أن السلطة الرمزية تبلغ ذروتها حين تفرض التصنيفات بوصفها بديهية لا بوصفها خيارات سياسية، والدولة التي تعجز عن فرض إطارها المعرفي الخاص لا تهزم سياديا في الميدان، بل تعاد قراءتها دائما من داخل أطر الآخرين، وتدرج تدريجيا في منظومات تفسير لا تتحكم هي في شروطها ولا في دلالاتها، فتفقد قدرتها على أن تكون مرجعية لتحديد ذاتها قبل أن تكون مرجعية لقرارها.
وقد نبه يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) في التحول البنيوي للفضاء العمومي إلى أن الفضاء العام يفقد وظيفته التداولية حين ينفصل النقاش عن إطار معياري جامع، ويتحول من مجال عقلاني لإنتاج الرأي العام إلى ساحة تفاعلات ظرفية محكومة بمنطق الاستجابة لا بمنطق التأسيس. وفي هذا السياق، لا يعود الإعلام وسيطا بين الدولة والمجتمع، بل مرآة لارتباك الدولة نفسها، إذ تعكس الرسائل الإعلامية غياب الحسم السياسي بدلا من تعويضه. ويضاف إلى ذلك ما بينه بيير بورديو في تحليله للحقل الإعلامي، حين أكد أن الإعلام، في غياب سلطة قادرة على فرض تصنيفاتها بوصفها بديهية، يخضع لمنطق السرعة والتنافس والتبسيط، ما يجعله عاجزا عن إنتاج معنى سياسي مستقر. وهكذا لا يضعف الغموض الخطاب الإعلامي فحسب، بل يحول الإعلام ذاته إلى عامل مضاعف لتآكل المعنى، حيث تتراكم الرسائل دون أن تنتج سردية، ويدار الجدل دون أن يبنى إطار تفسيري طويل الأمد للدولة ووظيفتها.
حزبيا، يفرغ الغموض البنيوي في معالم الدولة التعدد السياسي من مضمونه الفعلي، ويحول الحقل الحزبي من فضاء لإنتاج البدائل إلى مسرح تمثيلي محدود الأثر. فالحقل الحزبي، وفق تصور بيير بورديو للحقل السياسي، لا ينتج تنافسا ذا معنى إلا إذا وجد تصور مشترك — ولو كان محل نزاع — لمعنى الدولة وحدودها ووظيفتها، لأن الصراع السياسي يفترض دائما أرضية رمزية يشتبك فوقها. وحين تغيب هذه الأرضية، لا يعود الخلاف منظما داخل إطار سيادي واضح، بل يتحول إلى دوران حول قضايا جزئية أو خطابية لا تمس الأسئلة التأسيسية، تجنبا للاصطدام بفراغ لم يحسم سياسيا.
في هذا السياق، تفقد الأحزاب قدرتها على أن تكون وسائط حقيقية بين الدولة والمجتمع، وتتحول إلى فواعل رمزية تعيد إنتاج الغموض بدل أن تكشفه. ويجد هذا المسار ما يدعمه في تحليلات جيوفاني سارتوري (Giovanni Sartori)، الذي بين أن التعدد الحزبي لا يقاس بعدد الأحزاب، بل بقدرتها على هيكلة التنافس حول بدائل قابلة للحكم داخل قواعد لعبة معروفة. أما حين تغيب هذه القواعد، فإن التعدد يتحول إلى تنوع شكلي، لا ينتج اختلافا سياسيا جوهريا، بل يكرس الامتناع عن طرح الخيارات الكبرى. وهكذا لا يكون ضعف الحياة الحزبية ناتجا عن قصور تنظيمي أو ثقافي بقدر ما يكون نتيجة مباشرة لغياب وضوح معالم الدولة، إذ يفقد التعدد السياسي وظيفته الأساسية في إنتاج المعنى، ويصبح جزءا من إدارة الفراغ السيادي لا أداة لتجاوزه.
إداريا، يتجلى أثر غياب وضوح معالم الدولة في تضخم ما يمكن تسميته بالبيروقراطية الدفاعية، حيث تتحول الإدارة العامة من أداة تنفيذ لغاية سياسية واضحة إلى آلية تحوط ذاتي تحمي نفسها من القرار أكثر مما تنجزه. فحين تعمل الإدارة في ظل غياب تعريف مستقر للدولة ووظيفتها، تفقد الغاية التي تمنح القواعد معناها، وتميل إلى تراكم الإجراءات بوصفها بديلا عن الحسم لا وسيلة لتحقيقه. وقد نبه ماكس فيبر مبكرا إلى هذا الخطر حين حذر من تحول البيروقراطية، التي صممها بوصفها أداة عقلانية لتنفيذ الإرادة السياسية، إلى غاية قائمة بذاتها، تدار وفق منطق الاستمرارية لا الفاعلية. ويعمق ميشيل كروزيه (Michel Crozier) هذا التحليل في الظاهرة البيروقراطية حين يبين كيف تنتج القواعد المغلقة دوائر عجز ذاتية، تستخدم فيها الإجراءات لتجنب المخاطرة والمسؤولية بدلا من تحقيق النتائج. وفي السياق نفسه، توضح أدبيات الحوكمة عند رودس (Rodney A. W. Rhodes) أن تعدد الفاعلين وغياب مركز قرار واضح يضعف القدرة على التنسيق والحسم، فيتحول الامتثال الإجرائي إلى معيار النجاح الوحيد. وهكذا لا يكون التضخم الإداري خللا تقنيا، بل عرضا سياسيا مباشرا لغياب وضوح المعالم، حيث تتسع الفجوة بين الدولة بوصفها مؤسسة تدير نفسها، والمجتمع بوصفه فاعلا ينتظر قرارا لا يأتي.
أمنيا، يفضي غياب وضوح معالم الدولة إلى تحميل المجال الأمني أعباء سياسية وسردية لا تندرج ضمن وظيفته الأصلية، فيتحول من أداة لحماية القرار السيادي إلى بديل عنه. فحين تفشل السلطة السياسية في حسم القضايا التأسيسية، أو تؤجل إنتاج سردية واضحة للدولة ووظيفتها، يطلب من الأجهزة الأمنية إدارة نتائج هذا الغموض واحتواء تداعياته، لا بوصفها تهديدات أمنية خالصة، بل بوصفها أعراضا لاختلال سياسي أعمق. هذا الخلط لا يعزز الاستقرار، بل يعيد تعريف الأمن بوصفه مجال إدارة للفراغ السياسي، ويضع المؤسسة الأمنية في موقع لم تنشأ لأدائه.
وقد نبه باري بوزان (Barry Buzan) في تحليله لمفهوم الأمن في People, States and Fear إلى أن توسع مفهوم الأمن غالبا ما يكون مؤشرا على “تسييل السياسة”، حيث تنقل قضايا كان يفترض أن تدار في الحقل السياسي إلى المجال الأمني تحت ضغط “العجز عن الحسم”. وتوضح مدرسة كوبنهاغن، ولا سيما عند أولي ويفر (Ollie Weaver)، أن ما يعرف بعملية “الأمننة” لا يعبر دائما عن تصاعد تهديدات حقيقية، بل عن عجز سياسي عن التعامل مع القضايا ضمن أطرها الطبيعية، فيعاد تقديمها بوصفها مخاطر وجودية تبرر تدخلا استثنائيا. غير أن الاستثناء، كما يذكر كارل شميت، لا يكون دليلا على السيادة إلا حين يصدر عن قرار تأسيسي واضح، أما حين يتحول إلى نمط إدارة دائم، فإنه يصبح علامة هشاشة لا قوة.
في هذا السياق، لا يستنزف المجال الأمني وظيفيا فحسب، بل يدفع أيضا إلى الاشتباك مع مشكلات جذورها معرفية وسردية بالأساس، ما يوسع الفجوة بين طبيعة التحدي وأداة التعامل معه. وهكذا لا يكون تضخم الدور الأمني تعبيرا عن صلابة الدولة، بل مؤشرا على غياب وضوح معالمها، إذ يطلب من الأمن أن يعوض ما عجزت السياسة عن تعريفه وحسمه، فتدار الأعراض بينما تبقى الأسباب خارج المعالجة.
اقتصاديا، يفضي غياب وضوح معالم الدولة إلى تفريغ السياسة الاقتصادية من بعدها السيادي، وتحويلها من مجال اختيار استراتيجي إلى مجال إدارة مخاطر وتكيف ظرفي. فالدولة التي لا تحسم تعريفها ووظيفتها لا تستطيع أن تحدد على نحو مستقر ما الذي تعتبره أولوية اقتصادية، ولا ما الذي تدرجه ضمن مجال القرار السيادي وما الذي تتركه لمنطق السوق أو لشروط الخارج. وقد بين كارل بولاني (Karl Polanyi) في التحول العظيم أن فصل الاقتصاد عن الإطار السياسي لا يؤدي إلى حياد السوق، بل إلى إعادة تشكيل المجتمع نفسه وفق منطق التكيف، حيث تقدم الضرورات الاقتصادية بوصفها حقائق طبيعية لا خيارات سياسية. وفي هذا السياق، لا تعكس السياسات الاقتصادية غياب الموارد بقدر ما تعكس غياب القرار، إذ تدار الأزمات دون أن يبنى نموذج تنموي يعكس تصورا واضحا لدور الدولة.
عمق هذا الفهم دوغلاس نورث (Douglass Cecil North) حين ربط الأداء الاقتصادي بوجود “قواعد لعبة” مؤسسية مستقرة تمكن الفاعلين من بناء توقعات طويلة الأمد. فحين تغيب هذه القواعد، لا يضعف النمو فحسب، بل ترتفع مستويات عدم اليقين، ويتحول الاستثمار إلى سلوك تحوطي لا إلى التزام إنتاجي. وفي الاتجاه ذاته، يبين بيتر إيفانز (Peter Evans) في تحليله للدولة التنموية أن القدرة على توجيه السوق تفترض ما يسميه “الاستقلالية المتجذرة”، أي دولة تمتلك تصورا سياديا يسمح لها بالتدخل دون الارتهان. أما في الدولة غير الواضحة المعالم، فتفقد السياسة الاقتصادية هذا التوازن، وتتحول إلى استجابة لشروط خارجية أو اعتبارات آنية، فتغدو، وفق تمييز مايكل مان Mann, Michael. The Sources of في كتابه Social Power, Volume I: A History of Power from the Beginning to A.D. 1760. Cambridge University Press, 1986.، دولة قادرة على الضبط الإجرائي لكنها عاجزة عن بناء قوة بنيوية تمكنها من تشكيل الاقتصاد والمجتمع على المدى الطويل.
دستوريا، يتجسد وضوح معالم الدولة في قدرتها على إغلاق الأسئلة التأسيسية داخل نصوصها الدستورية، لا بوصف الدستور وثيقة تنظيم سلطات فحسب، بل بوصفه قرارا سياديا يحدد معنى الدولة ووظيفتها وحدودها قبل أن يبدأ التنافس السياسي داخلها. فالدستور، في جوهره، ليس إطارا إجرائيا محايدا، بل أداة ضبط للسياسة ذاتها، تحدد ما يجوز أن يكون محلا للخلاف وما يجب أن يبقى خارج التداول. وقد بينت التجارب الدستورية الصارمة أن تحصين المبادئ التأسيسية لا يضعف السياسة، بل يحميها من الانزلاق إلى صراع على الإطار نفسه. ففي النموذج الجمهوري الفرنسي، تشكل مبادئ عدم القابلية للتجزئة والعلمانية إطارا فوق سياسيا يحد التفاوض دون أن يلغي التعدد، كما أوضح جورج فيديل ودومينيك روسو (Georges Vidal and Dominique Rousseau) في فقه الدستور العام، بينما حلل أوليفييه بود (Olivier Baud) مسألة العضوية والجنسية بوصفها شأنا تأسيسيا لا يترك لمزاج السياسة اليومية. وفي السياق التركي، تبرز النصوص فوق الدستورية غير القابلة للتعديل، كما يبين إرغون أوزبودون (Ergun Özbudun)، بوصفها آلية إغلاق سيادي تمنع إعادة فتح تعريف الدولة ذاته داخل المجال السياسي. هذه النماذج لا تستدعى بوصفها وصفات جاهزة، بل بوصفها دليلا على أن الدولة التي تحكم تعريفها دستوريا تقلل قابليتها للتشكيك، وتمنع انتقال الغموض من السياسة إلى المجتمع وبقية الحقول.
وعليه، فلا يظهر غياب وضوح معالم الدولة كخلل منفصل في السياسة، أو الاقتصاد، أو الإعلام، أو الأمن، بل كمسار بنيوي واحد تتوزع أعراضه على جميع هذه الحقول. فحين لا تحسم المعاني في المستوى التأسيسي، تتحول السياسة إلى “إدارة تبريرية”، والمجتمع إلى “رابطة مشروطة”، والاقتصاد إلى مجال تكيف، والحياة الحزبية إلى تنوع شكلي، والإدارة إلى بيروقراطية دفاعية، والأمن إلى أداة احتواء للفراغ، والإعلام إلى خطاب رد فعل، والسيادة إلى موضوع إعادة تأطير مستمرة. هذه المظاهر لا تنتج عن ضعف أدوات الدولة، بل عن غياب مركز ثقل مفاهيمي يربط القرار بالسردية، والوظيفة بالتعريف، والقانون بالمعنى. ومن هنا، فإن وضوح معالم الدولة ليس شعارا خطابيا ولا مطلبا أيديولوجيا، بل شرط وجودي لبقاء الدولة فاعلا لا موضوعا، ومصدرا للمعنى لا ساحة لتنازعه، ومرجعية لذاتها قبل أن تكون طرفا في علاقات داخلية أو خارجية. الدولة التي تحسن تعريف نفسها قد تواجه الأزمات، لكنها تواجهها من موقع القرار؛ أما الدولة التي تهمل هذا التعريف، فإنها لا تدخل الأزمات فحسب، بل تدار من داخلها.
في المقابل، تظهر تجارب الدول التي حسمت معالمها أن الوضوح ليس شعارا خطابيا، بل موردا بنيويا؛ فهذه الدول تمتلك قدرة أعلى على إنتاج الشرعية، وضبط التعدد، وبناء سياسات عامة قابلة للتتبع، وتقليل كلفة إدارة الأزمات. وضوح المعالم هنا لا يعني الانغلاق أو الإقصاء، بل وجود إطار مرجعي ثابت يسمح بالاختلاف دون تفكك، وبالتغيير دون فقدان الاتجاه. وقد أشار تيلي بوضوح إلى أن الدول التي استقرت مبكرا في تعريف ذاتها كانت أقل عرضة لإعادة التشكيل القسري، وأكثر قدرة على التفاوض من موقع الفاعل لا الموضوع.
إذ تظهر التجارب المقارنة أن الدول واضحة المعالم تحصد مكاسب بنيوية واضحة: ارتفاع القدرة على إنتاج الشرعية، تخفيض كلفة إدارة الأزمات، بناء سياسات عامة قابلة للتتبع، تعزيز الثقة المؤسسية، وإدارة العلاقة مع الخارج من موقع فاعل لا تفاعلي. وضوح المعالم هنا لا يعني الانغلاق أو الإقصاء، بل يعني وجود إطار مرجعي ثابت يسمح بالاختلاف دون تفكك، وبالتغيير دون فقدان الاتجاه، ويمنع تحويل الدولة إلى موضوع تأويل دائم.
ضمن هذا الأفق المقارن، تبرز حالتان دستوريتان كاشفتان عن كيفية بناء “الوضوح” عبر أدوات معيارية عليا: الأولى في النموذج الجمهوري الفرنسي من زاوية الاندماج ومفاعيل العلمانية، والثانية في النموذج التركي من زاوية النصوص الفوق دستورية التي تنشئ هرمية معيارية صلبة فوق السياسة العادية.
في الحالة الفرنسية، لا قبول لمفهوم الاندماج خارج البنية الدستورية للجمهورية الخامسة. فالمادة الأولى من دستور 4 أكتوبر 1958 تنص على أن فرنسا “جمهورية غير قابلة للتجزئة، علمانية، ديمقراطية واجتماعية”، وتضمن المساواة أمام القانون دون تمييز وتؤكد احترام جميع المعتقدات. هذه قاعدة معيارية عليا ترسم حدود المجال العام، وتقدم العلمانية (laïcité) كإطار منظم لعلاقة الدولة بالمعتقد داخل الفضاء العمومي. وبهذا المعنى، يصبح “الاندماج” عملية مواءمة بين الأفراد وبين إطار جمهوري يعرف نفسه بخصائص دستورية محددة. نزع الجنسية في فرنسا بوصفه أداة حدية؛ تستخدم – قانونيا وسياسيا – في التعامل مع “الإخلال الجسيم” بالالتزامات الأساسية تجاه الدولة. فالقانون الفرنسي يجيز، في نطاقات محددة، تجريد بعض الأشخاص الذين اكتسبوا الجنسية الفرنسية من جنسيتهم في حالات معينة. وقد اعتمد المجلس الدستوري الفرنسي إدراج الجرائم الإرهابية ضمن أسباب نزع الجنسية في إطار أحكام القانون المدني محل الطعن في قرار 2014-439 QPC بتاريخ 23 يناير 2015. وفي المجال السياسي، ظهرت بعد هجمات 2015 مبادرة لتوسيع النطاق “déchéance de nationalité” عبر إدراجها دستوريا، ولا سيما بالنسبة لمن يحملون جنسية مزدوجة، لكنها تحولت إلى أزمة سياسية وانتهت عمليا إلى عدم اكتمال الإصلاح الدستوري المقترح. وبدلالة علم الاجتماع السياسي، لا يقرأ هذا الجدل باعتباره جدلا تقنيا في قانون الجنسية فحسب، بل باعتباره صراعا على تعريف العضوية السياسية وحدود “الانتماء القانوني” حين تتصادم الدولة مع تهديدات تصنفها بوصفها تهديدا وجوديا.
ومن داخل الإطار نفسه، يمكن فهم كيف انعكس “وضوح المعالم” الجمهوري على مسألة الحجاب والنقاب في فرنسا ليس عبر جدل أخلاقي فضفاض، بل عبر تحويل المسألة إلى تنظيم قانوني للفضاء العام وفق تعريفات جمهورية للحياد وللنظام العام. فقد صدر قانون 1192/2010 الذي يحظر إخفاء الوجه في الأماكن العامة، وأقر المجلس الدستوري دستورية جوهر الحظر في قراره رقم 2010-613 DC بتاريخ 7 أكتوبر 2010. كما تناولت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية S.A.S. ضد فرنسا هذا الحظر في سياق اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية. وبمنطق علم الاجتماع السياسي، فإن هذه السلسلة – من الدستور إلى القانون إلى الرقابة الدستورية – تظهر كيف يشتغل “وضوح المعالم” بوصفه قدرة الدولة على ترسيم المجال العام وترتيب العلاقة بين حرية الفرد ومتطلبات الإطار الجمهوري؛ وهو ما يجعل النقاش حول النقاب، مثلا، امتدادا لصراع على تعريف الفضاء العمومي وحدود الظهور الديني فيه، لا مجرد خلاف اجتماعي على اللباس.
أما في الحالة التركية، فتبرز صورة أكثر صراحة لمفهوم النصوص “الفوق دستورية” أو، بدقة أكبر، النصوص الدستورية غير القابلة للتعديل التي تنشئ طبقة معيارية محصنة ضد السياسة العادية. فالدستور التركي ينص في المادة 2 على أن الجمهورية “ديمقراطية، علمانية واجتماعية” محكومة بسيادة القانون، ويأتي في المادة 4 نص “المادة الدستورية غير القابلة للمساس” الذي يقرر أن أحكام المادة 1 (شكل الدولة جمهورية) وخصائص الجمهورية في المادة 2، وأحكام المادة 3، “لا يجوز تعديلها ولا يجوز اقتراح تعديلها”، وبذلك تصبح العلمانية – بوصفها جزءا من خصائص الجمهورية في المادة 2 – محمية بحصانة معيارية تمنع إدخالها في سوق المساومات الدستورية، وهو ما يكون عمليا “سقفا فوق سيادة الأغلبية” داخل الإطار الدستوري. هذا النوع من التحصين لا يكتفي بتحديد هوية النظام السياسي، بل ينتج – سوسيولوجيا – أداة لفرض الاستمرارية في تعريف الدولة لذاتها، حتى عندما تتغير التوازنات الاجتماعية والسياسية، بما يحد من تسييل المعنى الذي يصيب الدول غير الواضحة المعالم.
في ضوء هذين المثالين، يمكن صياغة استنتاج تحليلي لا وصفي: وضوح المعالم لا يتجسد فقط في خطاب الدولة عن نفسها، بل في هندسة معيارية تحمي التعريف الذاتي من التحلل، عبر نصوص تأسيسية، ورقابة دستورية، وترسيم واضح للمجال العام، وحدود صارمة لإعادة تعريف العضوية السياسية. وفي المقابل، فإن الدولة التي لا تمتلك مثل هذا التماسك – أو تمتلكه شكلا وتفتقده ممارسة – تبقى عرضة لتضخم التفسيرات البديلة، ولفتح معارك تعريف مستمرة، وللوقوع في موقع دفاعي دائم أمام الخارج والداخل على السواء.
يظهر في مثال اخر أحد أكثر تجليات عدم وضوح المعالم خطورة حين تترك مسائل بنيوية تمس تعريف العضوية السياسية والعلاقة بين المواطنة والحقوق التاريخية دون تحويلها إلى إطار سيادي مغلق الدلالة. ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، اتخذ قرار إداري-سياسي كبير أعاد تنظيم العلاقة القانونية مع إقليم خاضع للاحتلال، وقد تضمن هذا القرار تأكيدا صريحا على التزام الدولة الكامل برعاية حقوق مواطنيها المنحدرين من أصول لاجئة باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، مع التشديد في الوقت ذاته على أن هذه المواطنة لا تنتقص من حقوقهم كلاجئين، ولا من تمسكهم بحق العودة و/أو التعويض أو كليهما وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
من حيث الصياغة، بدا هذا التوازن محاولة دقيقة للجمع بين منطق الدولة ومنطق القضية، غير أن الخلل البنيوي لم يكن في المبدأ، بل في ترك هذا التعريف المركب دون تحصين سيادي نهائي يضبط تأويله. وبهذا، تحولت معادلة قانونية-سياسية داخلية إلى مادة مفتوحة لإعادة القراءة من الخارج، حيث جرى لاحقا تفكيك هذا التوازن لصالح قراءات انتقائية: تؤخذ المواطنة بوصفها تنازلا نهائيا، أو يعاد تعريف صفة اللاجئ بوصفها عبئا سياديا، أو يختزل الحق التاريخي في إطار تفاوضي لا تملكه الدولة المعنية. ومن منظور علم الاجتماع السياسي، لا تكمن الإشكالية هنا في مضمون القرار، بل في عدم إغلاقه دلاليا داخل سردية سيادية قاطعة، ما جعله عرضة لما يمكن تسميته بـ “الاستلاب التأويلي”، حيث يعاد تفسير التزامات الدولة وهويتها القانونية من خارجها، وتترك مسألة تأسيسية تتعلق بالانتماء والحقوق والواجبات رهنا بـ “مزاج” النظام الدولي وتوازناته، لا بإرادة الدولة وتعريفها الذاتي. هذا المثال يظهر بوضوح كيف أن غياب الحسم في المعالم لا ينتج مرونة استراتيجية، بل يفتح الباب أمام “نقل مركز القرار من الداخل إلى الخارج”، حتى في أكثر الملفات اتصالا بجوهر الدولة ومعنى سيادتها.
ويبلغ الخلل البنيوي ذروته حين تتحول الخيارات المرتبطة بحقوق تاريخية غير محسومة إلى آلية لـ “إدارة الدولة” نفسها من خارجها. فحين يعلق مستقبل الكيان السياسي والمجتمع على احتمالات اختيار العودة أو التعويض أو الجمع بينهما، دون أن تدرج هذه الاحتمالات داخل إطار سيادي مغلق الدلالة، تكون الدولة قد تنازلت – فعليا لا تصريحا – عن حقها في تخطيط مستقبلها. هنا لا يعود “الاختيار” تعبيرا عن حق، بل يتحول إلى متغير مستقل يعيد تشكيل البنية الديموغرافية والسياسية والاجتماعية للدولة دون قرار سيادي جامع. من منظور علم الاجتماع السياسي، تمثل هذه الحالة شكلا من تفويض المصير: تفوض نتائج كبرى تتصل بالانتماء، والوظيفة، والمعنى، إلى قرارات فردية متفرقة، تقرأ وتعاد صياغتها خارجيا بوصفها مؤشرات سياسية، وتستثمر دوليا بوصفها أدوات ضغط أو تسوية. والنتيجة ليست حلا تاريخيا، بل تعليقا دائما للتاريخ، حيث تدار الدولة بمنطق الانتظار، ويدار المجتمع بمنطق التكيف، وتستنزف السيادة في الدفاع عن تعريفات لا تملك الدولة وحدها حق تثبيتها. في هذا الإطار، لا يكون الخطر في عودة محتملة أو تعويض محتمل، بل في تحويل الدولة إلى حاضنة لنتائج خيارات لا تتحكم بإطارها ولا بتوقيتها ولا بتأويلها، ما يؤدي إلى إزاحة مركز القرار من الداخل إلى الخارج، ومن السياسة إلى التفاوض المفتوح، ومن التخطيط إلى رد الفعل. هذا النمط لا ينتج استقرارا ولا عدالة تاريخية، بل يراكم حالة عدم يقين بنيوية تبقي المجتمع في حالة توتر هوياتي دائم، والدولة في موقع دفاعي مستمر، لأن مستقبلها يصبح رهنا بسلسلة قرارات لا تملك سوى التكيف معها، لا إدماجها في مشروع سيادي محدد المعالم.
في الخلاصة، لا تتمثل أزمة الدولة غير الواضحة المعالم في ضعف مواردها، ولا في محدودية أدواتها، ولا حتى في تعقيد بيئتها الداخلية أو الخارجية، بل في غياب قرار سياسي يحسم تعريفها لذاتها بوصفها كيانا سياديا منتجا للمعنى. فحين تفشل الدولة في إغلاق سؤال من تكون، تنتقل آثار هذا الفشل عبر جميع الحقول: تتسيّل السياسة إلى إدارة، وتتحول الرابطة الاجتماعية إلى انتماء مشروط، وتفرغ السيادة من مضمونها عبر إعادة تأطير خارجية، ويغدو الإعلام خطاب رد فعل، ويتحول التعدد الحزبي إلى تنوع شكلي، وتتضخم البيروقراطية بوصفها بديلا عن الحسم، ويستنزف المجال الأمني في إدارة أعراض خلل لا ينتمي إليه، وتختزل السياسة الاقتصادية في التكيف مع الضرورة. في هذا السياق، لا تغيب الدولة ولا تنهار، بل تستمر في الوجود بوصفها جهازا يعمل دون أن يكون مرجعية نهائية لمعناه.
أما الدولة التي تحسم معالمها، فلا تفعل ذلك عبر الإقصاء أو الجمود، بل عبر بناء إطار سيادي مغلق الدلالة يسمح بالاختلاف دون تفكك، وبالتغيير دون فقدان الاتجاه. هذا الحسم لا يحصن السيادة فحسب، بل يعيد تنظيم العلاقة بين القرار والقانون، وبين السلطة والمعنى، وبين الداخل والخارج، بحيث تدار الأزمات من موقع الفاعل لا المفعول به، وتخاض التفاعلات الدولية من موقع من يعرف حدوده كما يعرف مسؤولياته. وبهذا المعنى، لا يكون وضوح معالم الدولة مطلبا خطابيا ولا ترفا نظريا، بل شرطا وجوديا لاستمرار الدولة بوصفها كيانا سياسيا قادرا على أن يقرر، وأن يلزم، وأن يعرف نفسه قبل أن يعرف من غيره.


