المستقل – كتب : د . عمر كامل السواعدة
الأردني اليوم ليس مجرد مواطن مرهق اقتصاديا؛ انما مواطن متشظ وجوديا، تتقاذفه ثلاث تيارات كبرى تتنازع رأسه وقلبه في آن واحد؛ الإسلاموية السياسية، والقومجية الشعاراتية، والليبرالية الإنسلاخية، وكل تيار من هذه التيارات يرفع لواء الحقيقة المطلقة، لكنه حين يصل إلى جوهر المشكلة لا يجد حلا إلا واحدا؛ نزع الشرعية عن الأردني نفسه، وتجريده من هويته الوطنية، وتحويله إلى مجرد “مدخل لغوي” و “تصنيف اصطلاحي” يمكن العبث به كلما احتاج الخطاب السياسي أو الأيديولوجي إلى شماعة جديدة.
لقد أصبح الأردني في نظر كل جهة من هذه الجهات مشروعا قابلا لإعادة التعريف كلما اقتضت مصالحها ذلك؛ فالإسلاموية تريد حصره داخل قالب أممي واسع يمحو خصوصيته ويذيب دولته في سردية عابرة للحدود؛ والقومجية تنظر إليه كـ “مادة خام” لمشروع عاطفي أكبر منه، مشروع لا يعترف بحدود ولا بتاريخ محلي ولا بسيادة دولة قائمة؛ والتيارية الليبرالية- وهي الأخطر- تتعامل معه بوصفه إنسانا بلا جذور، بلا هوية، بلا سردية، جاهزا للاستخدام في أي اتجاه ما دام ذلك يحقق لحظة نفوذ أو ضجيج إعلامي.
لاحظ أن هؤلاء الفشلة، لم يجترحوا حلا للمعضلة الأردنية إلا عبر ضرب الجوهر الأردني نفسه، وتفكيك شرعيته، ومسخ هويته إلى مجرد مصطلح مستورد مثل “الهوية الجامعة”، وهي بدعة لغوية وسياسية خطيرة أنتجت فتنة لا يعلم عاقبتها إلا الله… وربما من خطط لها واستثمر فيها.
ولأن الأردني متشظٍ من فرط هذه الضغوط، أصبح الدفاع عن الذات عبئا نفسيا يوميا، فبدل أن يمنح الحق في اعتناق هويته، أصبح مطلوبا منه إثباتها في كل مناسبة، والاعتذار عنها أحيانا، والقبول بإعادة صياغتها وفق مزاج الآخرين، وهذا أخطر ما يمكن أن يواجه دولة تسعى للنهضة؛ شعب مضطر للدفاع عن حقه في أن يكون هو نفسه.
إن محاولة سلخ الأردني عن جذوره التاريخية والسيادية لن تؤدي إلا إلى فراغ يتسلل منه كل مشروع يريد تحويل الوطن إلى “ممر” بدلا من أن يكون “مركزا”.
أسألكم؛
لماذا عليّ أنا الأردني، أن أقاوم كل شيء؟ادفع ثمن العروبة والمواقف في ظل هذا النكران والجحود والتخوين؛ هل عليّ ان استعد لمعركة قادمة مع الفضائيين نيابة عن الكرة الارضية؟
لماذا عليّ ان اعيش دائما في مربع؛ في الاردن جوع وفي الاردن بطالة، وبالمقابل في الاردن شموخ وكبرياء؟ الا أستطيع ان اعيش الشموخ والكبرياء بدون الجوع والبطالة؟
لماذا عليّ ان اعيش هذا القدر الذي صنعه لي الاخر؟ هل يمكن لبلد عمره يناهز القرن ونيف أن يبقى حائرا بين خياريْن متناقضيْن؛ دولة رفاه وتنمية حقيقية أم دولة “ممانعة”؟
هذه الأسئلة تطارد الأردن منذ نشأته قبل أكثر من 105 أعوام، فعلى الرغم من تشكيل 102 حكومة وتعيين ما يفوق الألفي وزير ورئيس وزراء خلال هذه الفترة، لم نشهد نقلة اقتصادية نوعية تضع البلاد على مسار الازدهار المستدام، فما السبب يا ترى؟ هل هناك فيتو سياسي يفرض من الداخل أو الخارج يعطل مسيرة التنمية؟ أم ترى تكمن العلة في خيارات الدولة وبنية نظامها البيروقراطي ذاته؟ أسئلة صريحة لا بد من مواجهتها دون مواربة، ضمن محاولة لفهم المفارقة التي تجعل الأردن ثابتا في مكانه بينما يتغير العالم من حوله.
ياخي…
أنا أريد فلسطين حرة من البحر إلى النهر، نعم، وأحلم بتحريرها كما يحلم كل عربي شريف، لكنني في الوقت نفسه أريد وطني،
أريد أن يسود السلام في العالم، وأن تنطفئ الحرائق في كل مكان، لكن أريد وطني،
أريد أن يتسع الأردن للبشر والجن والحيوانات والطيور والأسماء والحشرات والقرود السود، أريد أن يصبح وطنا رحبا، قادرا على أن يحتمل كل التعدد، لكن أريد وطني قبل كل شيء.
أريد أن أندمج ثقافيا ومجتمعيا وعالميا، أن أشارك البشرية في تقدمها، أن أكون جزءا من حركة المعرفة والتكنولوجيا والفنون، لكن أريد وطني،
أريد لرأس المال أن يعيش بسلام، أن يستثمر ويزدهر ويخلق فرصا ويصنع اقتصادا قويا، لكني—بكل صدق—أريد أن ألعن أبو البيروقراطية المعطلة، تلك التي تحولت من أداة إدارة إلى شبكة مقاومة للتنمية؛ وألعن البرجوازية الدراكولية التي تمتص دم الدولة وتعيش على إعاقات الاقتصاد؛ وألعن الوراثية المقيتة التي صنعت “عائلات ملكية” من غير الهاشميين، عائلات لا سند دستوري لها ولا شرعية تاريخية، لكنها هبطت علينا من برشوتات أبو الهدى وأمثاله من غربان تاريخنا المنكوب.
علينا أن نصدق مع انفسنا وننزع اغلال الفيتو الدولي والإقليمي المضروب على الأردن، الذي يعد هو الفاعل الأكبر لكل ما يجري داخليا وخارجيا، ولكسر هذا الفيتو، فلا بد من تغيير موقع الأردن داخل معادلة القوة نفسها.
علينا كأردنيين أن نسأل انفسنا ونجيب بصراحة هل نريد (النهج الحالي) الذي يضمن الاستقرار لكنه يكرس الجمود، أم (الإصلاح الجذري) الذي يتطلب صبرا لكنه يفتح باب التنمية. لقد حان الوقت لنواجه الحقيقة بلا تردد.
هل سنظل نقبل بهذا الدور إلى ما لا نهاية؟ هل سنبقى رهائن مزاج البعض في الداخل الأردني وفي الإقليم أو في المجتمع الدولي الذي يريد الأردني ثابتا فقط حين تحتاجه حساباته، وصامتا حين تعاد صياغة خرائط المنطقة؟ هل سنبقى نعيش بين لحظة استدعاء ولحظة إهمال، بينما يدفع الأردني الثمن في كلتا الحالتين؟
القرار هنا وجودي، إما أن نعيد بناء الدولة على قاعدة العدالة والكفاءة والكرامة والتنمية، أو نواصل تربية الوحش البيروقراطي الذي يأكل أطفالنا أحياء، إما أن نتحرر من الدور الوظيفي الذي أرادته لنا التيارات العابرة، أو نواصل الدوران في فلك لا نختاره، إما أن يكون الأردن دولة نريدها نحن… أو يصبح كيانا يريده غيرنا.
إن الصدق مع النفس ضرورة وجودية؛ لأن المجتمع الذي لا يواجه ذاته سيبقى في دائرة الدور الوظيفي لا الدور السيادي، ما لم نكن صريحين مع أنفسنا، فإننا سنستمر في إنكار المشكلة بدلا من حلها.
الصراحة مع الذات تعني أن نعترف بأن الأردني لم يعد يقبل بدور “الأداة” أو “جدار الصد” في كل نزاع إقليمي، بينما يترك وحده لاحقا ليواجه الفقر والبطالة وغلاء المعيشة وانسداد الأفق.
إن نُضج الدولة اليوم، ونضج المجتمع معها، يفرضان لحظة مصارحة؛ إما أن نكون دولة موقع وسيادة ودور مدروس يخدم أبناءها، أو نبقى في مكان لا يشبه حجم تضحياتنا ولا يليق بما قدمناه للمنطقة والعالم، وهذه المصارحة ليست تمردا على أحد، بل احتراما للذات الوطنية، وتأصيلا لدور يجعل الأردن قويا بقدر ما هو وفي.
في الختام، إن إعادة إنتاج نفس السياسات واللطميات لن يقود إلا إلى نفس النتائج، لقد أصبحت ضرورة التغيير واضحة، التغيير الذي يحفظ الأردن والجيش والعرش، المطلوب هو إصلاح المنظومة التنفيذية والإدارية والاستفادة من التوجيهات الملكية المتكررة التي طالبت بالإصلاح، وتنفيذها فعليا دون مقاومة بيروقراطية.
لقد أضاع الأردن فرصا كثيرة في مئويته الأولى؛ فلتكن المئوية الثانية عصر الوفاء بالوعود وتحقيق الإمكانات الكامنة، الكرة الآن في ملعبنا جميعا، والسؤال موجه لكل مواطن ومسؤول؛ أي أردن نريد للأجيال القادمة؟
الإجابة ستصنع التاريخ.


