المستقل – مع تزايد مؤشرات التوصل إلى اتفاق هدنة بين إسرائيل وحزب الله، بعد مفاوضات مكوكية توسط فيها المبعوث الأمريكي آموس هوكستين، يطفو على السطح سؤال حول هوية المنتصر في الحرب الكارثية.
سؤال فرض نفسه بالتزامن مع مفاوضات معقدة، كان من ضمن نقاط الخلاف فيها طريقة صياغة الاتفاق، التي بدورها قد تعطي إيحاء بتغلب طرف على آخر.
وبعيداً عن الصياغة هناك لغة أكثر واقعية لتحديد هوية المنتصر في أي حرب، وهي لغة الأرقام.
حقيقة الأرقام
وصلت حصيلة القتلى الإسرائيليين منذ بداية التوغل البري في جنوب لبنان إلى 60 قتيلاً، وفقاً للرواية الإسرائيلية، فيما قتل نحو 20 بصواريخ حزب الله (بينهم عرب وعمال من جنسيات آسيوية)، بالإضافة إلى 4 جنود من لواء “غولاني” تم استهدافهم عبر مسيرة انقضاضية في قاعدتهم العسكرية بحيفا، ليصل العدد الإجمالي للقتلى الإسرائيليين على “الجبهة الشمالية” إلى 84 قتيلاً.
من جهته، يحصي حزب الله، عدد القتلى الإسرائيليين بأكثر من 110 جنود في المعارك البرية، ويشير إلى أن الحصيلة لا تتضمن خسائر إسرائيل في القواعد والمواقع والثكنات العسكرية والمستوطنات والمدن الإسرائيلية.
وإذا اعتمدنا إحصائية حزب الله للجنود الإسرائيليين القتلى مضافاً إليها أرقام القتلى في الداخل، تصبح الحصيلة الإجمالية للقتلى الإسرائيليين بحدود 134 قتيلاً.
وفي المقابل، قتل نحو 515 مقاتلاً من حزب الله، و152 من الفصائل الفلسطينية في لبنان، وفقاً لأرقام الحزب نفسه، فيما سقط نحو 3544 مدنياً لبنانياً منذ بدء المواجهة بين حزب الله وإسرائيل في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفقاً لإحصائيات وزارة الصحة اللبنانية؛ ما يرفع العدد الإجمالي للقتلى في لبنان إلى 4211 خلال شهرين، والحصيلة مرشحة للارتفاع في كل لحظة.
وفي مقارنة لعدد القتلى بين الطرفين، سنرى أن نسبة القتلى على الجانب اللبناني تشكل على الأقل 31 ضعف عدد القتلى في الجانب الإسرائيلي، وهي نسبة تبدو هائلة قياساً بكل “البروباغندا” التي سوقها حزب الله و”محور المقاومة” عن قوة وقدرات الحزب خلال ما يزيد على 18 سنة، منذ انتهاء حرب 2006، و”توازن الردع” الذي طالما تحدث عنه الحزب باعتباره عاملاً حاسماً في منع إسرائيل من الهجوم على لبنان.
والمفارقة أن هذه النسبة كانت في حرب 2006 ( ثمانية إلى واحد) أي أن مقابل كل إسرائيلي قتل في حرب 2006 سقط مقابله ثمانية لبنانيين، لتصل النسبة اليوم إلى (31 مقابل 1) في زيادة 4 أضعاف عن مثيلتها في حرب 2006.
“الميدان” بديل عن “توازن الردع”
أظهرت الحرب المستمرة منذ أكثر من شهرين بين حزب الله وإسرائيل، أن الدمار الهائل الذي لحق بلبنان، وبشكل خاص في جنوبه وبقاعه وضاحيتة، لم يُقابله في أفضل تقدير، سوى إزعاج محدود لإسرائيل.
ورغم استبدال الحزب شعار “توازن الردع”، بعد “الضربات القاتلة” التي وجهتها إسرائيل لبنية الحزب، بشعار “الكلمة للميدان”، فإن النتائج لم تكن أفضل بكثير، وفقاً لمصدر سياسي لبناني.
والمقصود بـ”الميدان” هنا هو المواجهة البرية مع التوغل الإسرائيلي في المناطق الحدودية الجنوبية.
إذ يشير المصدر السياسي الذي فضل عدم الكشف عن هويته، إلى أن “أكبر الأخطاء الاستراتيجية في هذا السياق هو تجاهل الحزب للتطور التكنولوجي الإسرائيلي الذي حصل على مدار 18 عامًا، والاستمرار بعقلية حقبة 2006”.
ويستغرب المصدر كيف يمكن للعقل “الميداني” أن يرى الواقع وهو يتجاهل التكلفة البشرية الفادحة، والمجازر المستمرة، مشيراً إلى أن هذه الخسائر لا مكان لها في صورة “الميدان” الملحمية.
ويقول: “لم يقدم الحزب تفسيرًا لأسباب فشل معادلة الردع في حماية اللبنانيين أو حتى في حماية نفسه، بل استبدل استراتيجيته فجأة بعد اغتيال قياداته وأصبح يخوض حرب استنزاف، حرباً تُهدر فيها أرواح اللبنانيين ومنازلهم وأرزاقهم، قبل أن تستنزف العدو”، متسائلاً: أين هي قدرات حزب الله التي جعلت منه “بعبعاً” في لبنان والمنطقة، وماذا جرى لـ200 ألف صاروخ وطائرة مسيرة؟.
أين هي “الصواريخ الدقيقة”؟
من جهته، يفسر مصدر عسكري سوري، مآل الترسانة التي كان حزب الله يمتلكها، ويشرح سبب عجز حزب الله -بترسانته الضخمة-عن إحداث تأثير كبير أوإيذاء إسرائيل، وقلة استخدام الصواريخ البالستية الدقيقة والنتائج المخيبة التي حققتها.
يقول المصدر الخبير في الأسلحة والمتابع لمجريات الحرب، إن الأحاديث كانت تدور دائما عن امتلاك حزب الله ما بين 150 و200 ألف صاروخ وطائرة مسيرة، منها 2000 صاروخ دقيق، و1000 صاروخ بالستي، بالإضافة إلى 2000 طائرة مسيرة.
ومع ذلك، يقول المصدر “لا يظهر أثر صواريخ حزب الله الدقيقة إلا في حالات نادرة، مثل استخدام صاروخ “قادر 1” الأسبوع الماضي لاستهداف مقر الموساد في تل أبيب، ولم نشهد استخدام صواريخ ذات قدرة تدميرية عالية مثل “فاتح 110” إلا مرتين.
ولم يسجل حتى اليوم استخدام أي من صواريخ “فجر 5” أو “رعد 500” أو “زلزال” التي تم التباهي بها من قبل”.
ويوضح أن ما ظهر بكثافة كان صواريخ من سلسلة “فادي” السورية الصنع، إلى جانب راجمات غراد تحت اسم “ملاك 1″، ومؤخرًا صاروخ “نصر 2” الذي قيل إنه دقيق، لكن لم يتسنَ معرفة الأثر الذي تركه بعد استهداف القاعدة التقنية في حيفا.
بالإضافة إلى ذلك، يتم استخدام صواريخ الكاتيوشا قصيرة المدى بشكل رئيس لإرهاق “القبة الحديدية” بهدف تمهيد الطريق لدخول المسيرات.
ولا تزال الأسباب وراء امتناع حزب الله عن استخدام الصواريخ الدقيقة غير واضحة، وقد تباينت التفسيرات حول هذا الأمر. لكن الحزب نفى، الادعاءات الإسرائيلية التي زعمت أنه فقد 80% من قدرته العسكرية.
3 احتمالات
لكن المصدر العسكري تحدث عن ثلاثة أسباب مرجحة لعدم استخدام حزب الله للصواريخ البالستية التي يفترض أنها “فعالة” و”مدمرة”، أولها أن إسرائيل دمرت قسماً مهماً منها قبل الحرب، بما في ذلك الضربة الاستباقية يوم 25 أغسطس/ آب، وهذا قلص ترسانة الحزب بشكل كبير وأجبره على الاقتصاد بضرباته.
الاحتمال الثاني، وفقاً للمصدر، عدم وجود ضوء أخضر إيراني باستخدام الأسلحة الأثمن والأعلى دقة وتكلفة، نظراً لكون إيران تتوقع المزيد من الاشتباكات بينها وبين إسرائيل وتفضل بالتالي الاحتفاظ بالقدرة على تهديد إسرائيل عبر لبنان.
أما الاحتمال الثالث، فيعود إلى الخطوط الحمراء الأمريكية، ذلك أن الولايات المتحدة حذرت علناً، وعبر القنوات، حزب الله من عواقب ضرب البنى التحتية المدنية الإسرائيلية. وهذا أضعف قدرة الحزب وقلص خياراته.
أما عن النتائج المخيبة للضربات التي وجهها حزب الله حتى الآن بصواريخ بالستية، فتعود وفقاً للخبير إلى كون استهداف المدنيين خطاً أحمر بالنسبة لإسرائيل وأمريكا على السواء.
كما أن قدرات الإنذار المبكر عند إسرائيل عالية، ولذلك يتجه الإسرائيليون إلى الملاجئ في وقت قياسي، وهو ما يقلل عدد القتلى إلى الحدود الدنيا. مضافاً إلى كل ذلك قدرات القبة الحديدية التي نجحت بالتصدي لمعظم الإطلاقات.
“بروباغندا” التفوق
المحلل السياسي اللبناني، علي حمادة، يشرح من جانبه النتائج “المخيبة” التي حققها حزب الله في الحرب مع إسرائيل، قياساً بالادعاءات التي واظب على تكرارها خلال السنوات الماضية، فيقول “كان حزب الله دائماً، عبر قادته، ولاسيما أمينه العام، يتحدثون عن الإمكانات العسكرية والقدرات في السلاح، “وقد تفاقم الموضوع بعد الحرب في سوريا، واعتبار الحزب أنه حقق نصراً كبيراً في سوريا، عندما قاتل لمدة عشر سنوات هناك”.
ويضيف: ربما كان في اعتقاد قادة حزب الله والعقل العسكري فيه بأنه حتى لو لم تتوافر لديه قدرات يدعيها فإن من شأن هذا الادعاء بامتلاك قدرات فائقة أن يكون جزءاً من عملية ردع لإسرائيل وإخافتها والتأثير على الرأي العام الإسرائيلي، خاصة أنه في كل الأعوام الماضية كان الرأي العام الإسرائيلي معارضاً لأي حرب في لبنان، وحتى المستوى السياسي في إسرائيل لم يكن متحمساً لأي حرب في لبنان بالرغم من تعاظم القدرات العسكرية لدى حزب الله (حسب إدعاءات الحزب).
ويلفت حمادة إلى أن الإسرائيليين أنفسهم والدعاية الغربية ساهمت في نشر الانطباع بأن حزب الله يمتلك هذا القدر من القوة عندما كان يقال بأنه لديه 150 ألف صاروخ، لتبنى عليه سردية التفوق والقوة التي باتت قوة إقليمية، حتى أن أمين عام حزب الله كان يتحدث بأنه قادر على تغيير المعادلة في الشرق الأوسط بأسره.
ترسانة “للإزعاج”
ويشير الخبير اللبناني إلى أن ما جرى خلال الحرب الحالية وحتى اليوم كشف أن حزب الله أقل قوة مما كان يدعي “صحيح أنه يمتلك قدرات صاروخية، لكن معظم هذه القدرات هي قديمة وغير فاعلة، وربما لديه ترسانة من الصواريخ المتقدمة لكنها محدودة والقدرة على إطلاقها محدودة أيضاً نظراً لضيق المساحة الجغرافية للبنان”
ويوضح حمادة أن الحقيقة ظهرت من خلال هذه الحرب، حيث يستمر حزب الله بإطلاق صواريخ كل يوم لكن بمعدلات قليلة، ويوم أمس كان هناك 340 إطلاقاً لكن الصواريخ المؤذية والثقيلة والموجهة والدقيقة هي قليلة جداً مقارنة بالعدد الإجمالي، ولا يتجاوز عددها 5 إلى 10 صواريخ دقيقة وثقيلة.
ويضيف “نتحدث عن 300 صاروخ من أنواع قديمة جداً من فئة كاتيوشا وغراد وغيرها من الصواريخ التي تمتلك إسرائيل القدرة على إسقاطها، أو أنها لا تصيب أهدافها وليست لديها أهداف، بل هي عبارة عن صواريخ للإزعاج أكثر مما هي للإيذاء”.
وبالتالي يخلص المحلل السياسي اللبناني إلى القول بأن “كل هذه السردية وكل هذه الدعاية والترويج أدت أيضاً إلى تخدير كثيرين في لبنان وفي المنطقة، وتحديداً في بيئة حزب الله، عبر اقتناعهم بأن حزب الله متفوق على إسرائيل وقادر على إزالة إسرائيل من الوجود، ليتبين أن هذا الأمر غير صحيح بكل بساطة” .